(نغمة الحبُّوبات) في قصائد موفق محمد
الحسين بن خليل
في محاولة فرعية للنظر في التأثير اللاواعي للنسق الاجتماعي في النص الأدبي بعيداً عن التركيب الجمالي والأسلوب البلاغي نجد أن هناك تعالقاً ضمنياً بين الخط البياني لحركة الأديب في مجتمعه والمكتسبات المعرفية وهذا يمثل المحيط البيئي الواسع وبين الخط الذي تفرضه البيئة الاجتماعية المحيطة بالأديب والتي يمكن تسميتها بالضيقة وهي ما يذهب إليه الكثير من علماء الاجتماع بإعطائها تشبيه اللبنة الأولى في عملية التنشئة أو الأساس الذي يتكئ عليه المنحنى السيكولوجي فيما بعد، وهنا لابد من تأطير هذه اللبنة والتسويق لها بعد تجميعها على شكل ملخصات للعوائل على أنها نسقٌ ثقافيٌ مؤثرٌ ويعدُّ كعقدٍ اجتماعي سلوكي لاواعٍ يتداول بين أفراد المجتمع وخاصة اليافعين، وقد يمتد هذا النسق في حركته أو يركن إلى الضمور حتى يشيب المرء ثم يتفتح زهره مع تقدم العمر ليروي ما مُلِئَ عليه في مرحلة عمرية أولى .
. لعل أكثر هذه الأنساق تأثيراً هو (ثيمة الحبُّوبات) التي تترسخ من دون دراية في الذات لسببين الأول هو النظرة التي يذهب بها الطفل إلى التسليم المطلق لما تقوله العجائز والثاني هو الذاكرة التي تحفظ ما يسمى (الگفلة) التي هي أشبه بالهوسة أو النعي أو الشعر الفطري وهذا يحمل في مضمونه رغم فطرية مطلقاته رسائلَ ومقاصدَ يمكن تصنيفُها إلى فلسفة القصد اللاواعي، فهذه الرسائل عادة ما تكون على شكل أمثالٍ مرسلةٍ أو وصايا مقصودة أو حتى توبيخ معلن لأشخاص داخل منظومة العائلة...
عناصر هذه الثيمة لا تنتهي على شكل (نعاوٍ أو أقوال) بل هي تمتد لتكون أصواتاً وسلوكاً ذات تأثير واضح خاصة في البيئة القروية ولصغر المجتمعات وصغر المسافة بين القرية والمدينة في بداية القرن العشرين نجد التداول الشفاهي واضحاً لمعالم هذه الثيمة وتتشكل ملامحها في تطبيقات كثيرة في الحياة اليومية، الشارع ، البيت ، السوق ، المقاهي ، مع قوة الذاكرة الشعبية واعتماد أصوات هذه الثيمة على السهولة في التراكيب اللغوية والقصدية مع قوة تأثير معانيها فإن تداولها شفاهياً كان سهلاً ومؤثراً لينعجن بها شاعر مثل موفق محمد وتنعجن به.
(نغمة البيبيّات) لو أردنا استخلاص ملامحها نحتاح لمقالة خاصة ولكن يمكن اختصارها بأنها النسق الثقافي الذي يتأتى أو يحفظ على لسان الحبّوبات ويحتمل عدة وجوه منها (الأمثال الشعبية) (سلوكيات) (الگفلات) (النعاوي) وحتى الأكلات الشعبية التي استقرت كنظام غذائي واحد حتى سقوط النظام وانفتاح المدخلات الاجتماعية على الأنساق الثقافية في العراق بشكل عام وحدوث ثورة معلوماتية إلى سلوكية على جميع المستويات ...
موفق محمد (أبو خمرة) الشاعر العراقي البابلي بطريقة ما لم يَسْلم من تأثير هذه الثيمة في نصه الأدبي الشعري أو أنه ذهب في محاولاته ليتقصد إقحام ما يستطيع إقحامه من عناصر هذه الثيمة والتي تمتاز بسهولة حملها شفاهياً وسرعة تأثيرها وهنا يمكن القول أنه أجاد في هذا التضمين، فهو الابن البار من جهة لحبّوبته التي قمَّطته ورمته في شط الحلة وأيضاً هو الثائر على التقاليد والموروثات التي ألفها ولم تشكل لديه سوى عائقٍ أمام تطلعاته لمجتمع مختلف.
موفق محمد الواجهة البابلية لم يكن راوياً لمدينة الحلة فقط أو شاعراً لوجع عراقي بل هو عارض لسلوكيات مجتمعية والشاعر الأكثر قدرة على عرض صورة متحركة عن إشارات مجتمعية في شعره وهذا توثيق قد تجاهلته التوثيقات والتحقيقات في الشعر فيما كان حاضراً في الرواية والقصة لكن موفق محمد جعله شفاهياً وهنا جعل من نفسه أيقونة رابطة بين الماضي والحاضر .
يقول ...
أنا أحب الحلة لأني ولدت على بعد موجتين من نهرها
فسمتني الحبّوبة “موفقاً” وقمَّطتني بِطين النهر
في المساء أسرجت أمي سبع شموع في كتاب
وسيّستني بجاري البتول داعية لي أن لا أكون شاعراً
لأن أباها ـ رحمه الله ـ كان شاعراً
لا يطفر من مقلاة إلا ليقع في أخرى
أشد وأقلى...
في هذه المقالة لست معنياً في القيمة الجمالية للنص ولست في محل تفسير إنما البحث عما رواه (أبو خمرة) عن حبّوباته وحبّوباتنا جميعاً في الوقت الذي نشهد طفرة ثقافية انسلخ المجمتع عن تلك الثيمة على مستوى السلوك واللغة ونمط العيش فنحن الآن مقبلون على حبّوبات ليست لهن تلك النغمة التي تشكَّلت في بدايات القرن العشرين من ملبس ومأكل ونمط حياة بل إن جيل السبعينيات سيشكِّل وجهاً آخر للجدّات غير الذي تشكَّل في الأجيال التي سبقته بعد الثورة الاجتماعية الأخيرة وهذه أدخلت ما لم تعِهِ ولم تفهمه حبّوبة القرن العشرين، فربما بعد عشر سنوات من الآن نجد مصطلحات وثقها الشاعر غريبة غير متداولة كـ (حبّوبة ، گماط ،جاري البتول) إلا أن موفقاً وثّقها وأعطاها الصبغة الشفاهية التي تخلد في ذهنية متلقّيه، أيضاً من غير المصطلحات وثَّق الرجل طريقة عيش ومنها ما أشار إليه (أسرجت سبع شموع في كتاب) لولا هذه القصيدة الحلِّية لكان على أدبيّات المجتمع أن تساير النمط الاجتماعي وتخبره دورياً أن الطفل المولود حديثاً تُمارَسُ عليه طقوسٌ في السّابق لم نألفها الآن (سيّستني بجاري البتول) هي لم تفعل ذلك لكنها (سيّست) أي عوّمت أمانيها في شط الحلّة ،وهذا ما كانت تذهبُ إليه الحبّوبات آنذاك, ترسل الدعوات والأماني مع النهر وهو ما ساد، معتقدين أن الأماني تكون قريبة من الله وهي تجري في جاري البتول أي نهر الفرات الذي اقترن بالبتول فاطمة الزهراء وفيه تفصيلات مجتمعية وروايات متعددة.
يُعدُّ موفق محمد رائداً في كتابة الحزن وتجسيده من خلال ما ورثه من مصطلحات وأقوال وحكم الجدّات ، لذا سُمّي (شاعر الوجع العراقي) لنقده الواقعَ المرير غير المرغوب فيه لعامَّة الشعب، وهو الذي واكب شعره فعمل على تنصيص هذا في الأدب وجرِّه لمنطقة موفق محمد حتى بدت هناك حاجة ملحَّة في البحث عنه كلما أراد المجتمع نقد الواقع السياسي والاجتماعي،
يقول في قصيدته (لا حرية تحت نصب الحرية) والتي كتب عنها النقاد باستفاضة إلا أنني أربط بعيداً عن الجمالية بين البعد السياسي والبعد الذي يتعلق بالموروث المستقى من الجدّات،
وتظل تقارن عمراً ما بين ذاك وذا ..... (والصافي الك تصطل من إيران شره وأذاه
لو كتله فدوة الشعب محروگ ... گلّك وإذا ؟ ... ما طول انا بالحكم “حيل وعساه بأنگس”
لو كتله فدوة الشعب مجمور ... گلّك وإذا ؟ ... ما طول ماحصلت منصب “عساه بأنگس”)
هنا موفق محمد في هذه الأبيات يختار في نص واحد عدة وجهات سياسية واجتماعية واقتصادية لكنه أيضاً ذهب في اتجاه وركب ،طالما كان مجبولاً عليه واستقاه في كتابته للقصيدة وضمن مقاصد أراد لها أن توثَّق في النص لكنه في هذه المرة لم يأخذ من (ثيمة الحبوبات) كنايته بل صار هو المصدر وكأنه يقول: أنا الثيمة التي رويتها في أشعاري، أنا الآن المصدر أو المولّد للأقوال التي كانت ترددها العجائز لتكون أمثالاً مقصودة لتشارك في عملية تسيير من تريد تسييرهم،
(لو گتله الشعب محروگ ... گلك وإذا) هذه المعزوفة هي ما تحتاجه الشفاهية العراقية في وقت اختفت قدرة الذاكرة الشعبية على الاحتفاظ والترديد، وصنع موفق ثيمته في محاولة صناعة جديدة تمتد إلى صناعة حبّوباته وقال قوله الذي أخذ يتردد على لسان الجميع وخاصة التشريني.
أما (ما طول أنا بالحكم حيل وعساه بأنگس) هنا اجترح له مقولة قد تبقى تردد لأجيال بعيدة كلما تعاملت مع طبقة سياسية فاسدة وهذا يذكر المتلقي بما قالته الأمثال الشعبية التي وردت على ألسنة الأمهات (ثلثين الدگ ع المربوط) وفي المقارنة نجد أن موفقاً يدق على وتر الخضوع المجتمعي في الإشارة إلى البقاء في الحكم والتدني للمجتمع نفسه الوتر الذي يظهره المثل في تبيانه أن التدني والدگ سيتعرض له ذات المربوط الساكت.
(ضيَّع الصاية والصرماية) في العودة إلى التضمين نجد هذه الجملة الشعرية التي هي بالأصل مثل أقحمه في قصيدته أحب الحلة في محاولة لتوثيق التشخيص الذي تحدده العجائز في السابق لمن يخرج من دنياه بلا رصيد اقتصادي واجتماعي وهذا التضمين استعمله معظم الشعراء إلا أن شاعرنا لم يجده فقط بل جعله ثيمة لنصوصه.
هنا تبرز أهمية موفق محمد في الشعر العراقي بتواصله بين حاجة المجتمعات للأدب من جهة وحاجتها للتوثيق من جهة أخرى، التوثيق التعالقي بين هوامش لم يعِ أهميتها معظم الشعراء والكتاب فأجاد بها وصار ولداً يروي على لسان حبّوباته.