حصان نيتشه لعبد الفتاح كيليطو: السخرية لزعزعة الثابت والمستقرّ

ثقافة 2023/07/12
...

فدوى العبود

القصة الصغيرة لا تزال الطريقة الجوهريَّة التي تمثل بها المعرفة

 جان ليوتار

تمثل “حصان نيتشه” 2005 للكاتب المغربي عبد الفتاح كيليطو نموذجاً للكتابة الشذريَّة وتتألف الرواية من العناوين الرئيسة: (حفريّات-خصومة الصور- حصان نيتشه) وينطوي كلّ عنوان على مقاطع وشذرات وبرغم تنوعها واختلافها إلا أنها تدور حول صورة الذات في علاقتها بالآخر وبالثقافة؛ وإنَّ استخدامه لتقنيات المفارقة والسخرية يعكس ميله إلى التقويض-تقويض المركزي لصالح الهامشي- ما يؤدي لانزياحه عن معنى النص الأصليّ نحو معانٍ لم تكن في أساس تكوين النص؛ في تقابل رمزي بين التراث العربي والديني والأدبي والفلسفي والتراثي في سياق/ التضاد/ التشابه/ الاختلاف/ بهدف تفتيت دلالة سائدة وتوليد دلالة مبتكرة. نص كيليطو مزدحم بالأسئلة والأصوات، صوت النص وهواجس المؤلف وشواغل القارئ؛ وقد تساءل المحجوب الشوني عن “حدود التداخل بين قراءة الآخرين أو انتساخ كتاباتهم والتأثر بأساليبهم! وبين الإبداع الشخصيّ؟”1
ما ينفي فكرة النقاء والأصالة- اللتين تعدان فكرتين حداثيتين- عن حصان نيتشه ويسمها بطابع ما بعد حداثي؛ كشكل من أشكال الكتابة غير النمطيَّة وهذا ينسجم مع فهم كيليطو للنصّ الأدبي الذي يشمل جميع الأنواع التي تعتبر أدبيَّة. إنَّ الكتابة الشذريَّة تنطوي على فلسفة خاصة وقد كتب نيتشه مرة: (إنَّ مرماي أن أقول في عشر جمل ما يقوله غيري في كتاب). وكأمثلة لدينا موريس بلانشو في “كتابة الفاجعة” وفرناندو بيسوا. وهي أعمال يَسِمُها تمزّق الفكر وتحطيم النسق.
فالشذرة عند كيليطو ليست وسيلة للتقابل والاختلاف والتأويل ولا نهاية الدلالة؛ بل للتواصل مع القارئ. وتمثل “حصان نيتشه” بدءاً من العنوان- الذي يرى فيه المحجوب الشوني دلالة تأويليَّة “تحقق الوظيفة التنبيهيَّة-بحسب جيرار جينيت Gerard Genette والتي ستتسع وتتشابك مع عناصر أخرى في النص سيكون من مهام القارئ تأويلها”2 -نصًّا تخيليّاً-له بعد تأويلي يعمل كمنطقة التواصل والاستمرار في قلب الاختلاف، ويسمح بحريَّة التلقي من خلال الشذرة.
يتألف القسم الأول والمعنون حفريات من (صحيفة الغفران- عصا موسى- لوحة- منتصباً مثل عمودي- المسرح الآخر- مجنون ليلى-كرامات- في معركة مبهمة) وهي مجموعة حكايات وتجارب ذاتيَّة شديدة الخصوصيَّة كجنون دون كيخوت أو إيمان سمعان العمودي وطريقة تعبيره عن إيمانه.
 إنَّ تقديم هذه الحكايات، من خلال المماثلة والموازاة بينها ومن خلال تفكيك الحكاية الرئيسة تبتعد عما قرّ في الأذهان حولها إلى تفسير جديد؛ وفي حالة سمعان العمودي سيذكر لنا كيليطو ذريَّة كاملة، تحاكي فعله (بهلوان كافكا، بارون إيتالو كالفينو ونماذج كثيرة في السينما إضافة لأبي الحسن البصري. وعبر هذه الموازاة الساخرة يرفع عن فعل سمعان أي قداسة أو خصوصيَّة بإرجاعه إلى إنسانيته. وفي شذرة بعنوان (مجنون ليلى)، نرى الجانب الغائب من الحكاية وعبر التساؤل والشك والسخرية نشك في هذا الحب الذي كان يمكنه التحقق لكن آثر الفقدان ربما “لأنَّ حب الشعر عنده أقوى من حبه لليلى”
وفي مقطع “كرامات القديسين” يقابل كيليطو بين دون كيخوت و”أبو علي الشرمقاني”- مجوِّد القرآن- من القرن الخامس الهجري. وعبر المفارقة والإيحاء والترميز نصل إلى أنَّ كل مبالغة تنتج بالضرورة نقيضها أي كاريكاتيرها في الجانبين. الإيمان بالفروسيَّة عند دون كيخوت وبالماورائيات في حالة الشرمقاني. هذا ما يجعل من هذه الشذرة تقف على مسافة من كل حقيقة.
في الشذرة المعنونة “المسرح الآخر” نشك بالمقاصد الأخلاقيَّة لسكان مدينة آدوم “الذين يطردون منها المتشردين والمتسولين ثم “يجتمعون فوق الأسوار لمعاينة مشاهد الاغتصاب والفظاعة التي تدور تحتهم، في الظلام” ص 14
فلماذا يتم الطرد إن لم يكن للاستمتاع بالفظاعات، وهل سكان مدينة آدوم أبرياء. وماذا لو توقفت هذه الفظاعات التي يشاهدونها في الظلام؟ وإلى أي حد هم بحاجة لوجودها لتروي دافعاً متخفياً!
يمكن توليد احتمالات لا نهاية لها منبثقة عن الحكاية الأصليَّة، وبهذا فحكاية الطرد والمقاصد الأخلاقيَّة تتهدم عبر زعزعة أساسها وتقويض المقولة المركزيَّة للحكاية الأصليَّة ومواربة الباب لحريَّة التأويل عبر التفكيك ما يجعل النص يحقق ما تمناه ورغب فيه دريدا من القراءة “ألّا تكون شكلانيَّة محايثة للنص وإنما؛ التموضع داخل الظاهرة للكشف عن أبعاد تتجاوز ما ينظر إليه على أنه مركزي وجوهري، وإحلال ما بدا هامشيًّا مكانه”3
كما يحيل عنوان الفصل الأول حفريات إلى “حفريات المعرفة”* عند ميشيل فوكو. أي الحفر في منطقة مجهولة أو مهملة لاستخراج مقاصد ومرام يتعمد النص أن يخفيها.
في القسم الثاني والمعنون بـ”خصومة الصور” يتحول المؤلف إلى شخصيَّة رئيسة تارة، ويروي بضمير الراوي العليم في أخرى مفارقًا بهذا مفهوم المؤلف المتعارف عليه، أو الراوي كما اعتدنا عليه في الرواية التقليديَّة بحيث يتماهى السارد مع عبد الله تارة ويفترق عنه في أماكن ويحلل نصوص الآخرين- من موقع القارئ- في ثالثة.
 وتحت عناوين (زوجة ر- جنون- تمرد في المسيد-البرطال- كأس الحليب- صورة النبي- بنت أخ دون كيخوطي- ثريا- يوم السينما-) يناقش موضوع الصورة “فهي إلى حد ما، بطل هذا الكتاب” ص 21
وعبر المقارنة بين ثقافتين إحداهما تحرم الصورة والأخرى تستخدمها يبحث في صورتنا الذاتيَّة وهويتنا الثقافيَّة إزاء الآخر، وكيف استغلت السينما الأوروبيَّة الصورة لتسويق فكرها ورؤاها التميزية. ويتساءل عما فقده العرب بدخولهم عصر الصورة؟ والأمر الذي له دلالة هو أنَّ الصورة قد فرضت نفسها عليهم لحظة اصطدموا فيها بالآخر، فتشوشت صورتهم بسبب اتصالهم بصورته، ويتابع تقويض الأفكار الكليَّة والنسقيَّة الخطيَّة للكتابة عبر الموازاة والسخرية والمقابلة كأن يقارن بين (زوجة ر) في شذرة تحمل ذات العنوان التي تنقل أخبار الحي لزوجها وبين المسعودي وهيرودوتس.
تمثل حصان نيتشه زعزعة الثابت والمستقر عبر تبديل مواقع هامش/ مركز. مساءلة البديهيات والغيبيات من قلب المعيش وكأنَّ النّصوص تروي ذاتها، وفي هذه الهجنة الثقافيَّة التي تغلب عليها الاقتباسات والحكايات والأسئلة. ويتمثل فيها قبح المستعمر في كأس الحليب. حيث كانت والدة عبد الله تكسر الحليب بالماء في كأس صغير بينما يشرب ابن المسيو نوريسيس– مدير المدرسة الفرنسيَّة. (ربما لامتياز أنه من جوهر خاص قنينة كبيرة من الحليب الصافي). كما يسخر الكتاب من الحب كفكرة رومانسيَّة عبر المقابلات الساخرة مع (الحب الرعوي لبول وفرجيني، أو الحب المأساوي لروميو وجولييت، أو الحب الحنيني للشاعر الفرنسي ابولينير.) وهذا يعكس رؤية الكاتب لكل ميتافيزيقا مفارقة للمعيش.
في شذرة بعنوان “يوم السينما” يفكك الخطاب الثقافي للمستعمر. من خلال التضاد الذي تقدمه الأفلام بين الشقراء والسمراء؛ بين شريرة وغضة وجذابة. والفيلم محكوم بتحكم العارض-الذي هو هنا دلالة تأويليَّة مفتوحة- للتلاعب بالذوق والأفكار. فالفوضى والانقطاعات في شريط الفيلم مصدرها إرادة العارض ذاته. كان الجمهور يحتج لانقطاع مشهد قبلة لكن أحداً لم يحاول السؤال لماذا تكون السمراء شريرة على الدوام والشقراء فاتنة! وهذه مهمة ما بعد الحداثة أن ترى ما وراء الصورة. يخصص كيليطو القسم الأخير والمعنون- حصان نيتشه-لأسئلة القراءة وقضايا الأدب على غرار الجاحظ وبورخيس وكالفينو، أومبرتو إكو؛ ليكون مثالاً دقيقًا لما قصده الأندلسي ابن عبد ربه، مؤلف كتاب العقد الفريد، في قوله إنَّ اختيار الكلام أصعب من تأليفه؛ ما يتماشى مع رؤيته إلى الكتابة التي تكشف استحالة وجود نص نقي قائم بذاته، “ما أكتبه لم يكن سوى نسيج من الاقتباسات” ص 144
 من هذا المزيج الفلسفي والأدبي والتراثي والذاتي إضافة إلى الهجنة بين الحكاية والمقال يرتفع بنيان “حصان نيتشه” لتنتمي باقتدار إلى ما بعد الحداثة شكلاً عبر الشذرات التي تمتح حريتها من حريَّة المتلقي ومضمونًا عبر الموازاة والسخرية والتأويل والتقويض التي تشكل ملامح وأسلوبيَّة بارزة للكتابة ما بعد الحداثيَّة وتصبح الكتابة (كتابة على كتابة ونص على نص).
1-الشوني، المحجوب، مقال: حصان نيتشه: صورة الأديب في شبابه، موقع وزارة الثقافة-المملكة المغربيَّة عدد 32 منشور بتاريخ 2009
2-الشوني، المحجوب، مقال، رواية “حصان نيتشه” صورة الأديب في شبابه، موقع الثقافة المغربيَّة، عدد 32 منشور بتاريخ 2009