الشاعر قاسم حداد: لدى الشعراء أسباب كثيرة ليكونوا عرضة لهدر الدم
حاورته: بيتي فرح
عندما يُذكر اسم الشاعر “قاسم حداد” تحضر في الذهن أسماء الرعيل الأول من الأدباء العرب.. حمل جذوة الشعر منذ أن تلمَّس سبيل معرفته الأولى حتى كان بعد ذلك “جهة للشعر”.. ليس هناك محطة واحدة يمكن التوقف عندها مع الشاعر الكبير قاسم حداد، فمحطات تجربته كثيرة لكلّ منها خصوصيَّة مختلفة. وُلد حداد في البحرين عام 1948, وشارك في تأسيس (أسرة الأدباء والكتاب في البحرين) عام 1969. وتولى رئاسة تحرير مجلة كلمات التي صدرت عام 1987. وهو عضو مؤسس في فرقة (مسرح أوال). تُرجمت أشعاره إلى عدد من اللغات الأجنبيَّة. شاعر وصحفي ومسرحي, له نشاط سياسي تعرّض بسببه إلى الاعتقال, حصل على أربع منح للإقامات الأدبيَّة في ألمانيا ما بين عامي 2008 و2015.
كما حصل على جوائز عدّة كجائزة المنتدى الثقافي اللبناني في باريس, وجائزة سلطان العويس الثقافيَّة عن حقل الشعر لدورة 2000- 2001. وجائزة أبي القاسم الشابي للإبداع الأدبي. وجائزة محمد الثبيتي الشعريَّة.. وغيرها الكثير.
عن الشعر والحياة والتجربة الإنسانيَّة والأدبيَّة الطويلة كان لي معه هذا الحوار الحصري الذي خصّ به جريدة الصباح. ليطوّقنا بالامتنان والشكر.
* في البدايات مررت بالعديد من الظروف الاجتماعيَّة والسياسيَّة, أثرت في حياتك, من حرمانك الدراسة حتى الاعتقال السياسي. هل تحرّرت كلماتك من المعتقل كجسدك؟
الظروف الاجتماعيَّة طالت العديد من أبناء جيلي الذين وجدوا أنفسهم أمام مسؤوليَّة العمل المبكر لمعاونة أسرهم على الحياة, وبالنسبة لي حاولتُ تعويض خسارة الدرس في المدرسة بالقراءة العامة, وساعدني عملي في المكتبة العامة والولع بالقراءة على تعويض تلك الخسارة.
الاعتقال السياسي من بين تجارب الحياة الصعبة التي يمر بها الإنسان وهو يختار طريق النضال في بلادنا, أظن أنني تحررت مبكراً من السياسة بوصفها وهماً. كنت أرى الإيديولوجيا باعتبارها في خدمة الإنسان وليس العكس, بما فيه الدين.
* غيّرت اسمك من جاسم المذكور في بيان القيد إلى قاسم. هل يُعد الاسم هويَّة, أو حالة مزاجيَّة للشاعر؟
لا أعرف على وجه التحديد. أعرف أنني أحبّ اسم (جاسم) لبساطته, وليس لأنه اسمي الحقيقي الأول. و(قاسم) هو اسم أدبي اخترته لإعجابي بالشاعر الجزائري مالك حداد صاحب كتاب (الشقاء في خطر).
* عدَّ بعض النقاد قصيدتك النثريَّة الطويلة “قلب الحبّ” انعطافة جديدة في تجربتك الخاصة, وفي التجربة الشعريَّة في البحرين على مستوى الشكل والمضمون.. فهل من دوافع معينة كانت وراء كتابتها؟
كنت في السجن حين كتبتها. ثمة حالة حب لزوجتي تفجّرت هناك في ليالي الاعتقال. في الصباح كان الأصدقاء يجدون في فراشي جسداً مريضاً وقصيدة نشيطة.
(قلب الحب) كتاب عن الحب الذي كان التنظيم الحزبي يرى في الكتابة عن الحبّ ترفاً لا يليق بالنضال والمناضلين, و(قلب الحب) أيضاً مكتوب في شكل ما يسمونه “قصيدة النثر”, فقد كتبت النصوص خارج الوزن والتفعيلة المعروفة في قصائدي الأخرى. وقد تحولت تلك القصائد نصوصاً في رسائل رفاق الاعتقال إلى زوجاتهم وحبيباتهم. والحق أنَّ الكتاب قد تمّ جمعه من الأصدقاء بعد الاعتقال للنشر.
* في عام 1996 أسست موقع جهة الشعر, وقد كان ويكيبيديا أدبيَّة, وموقعاً عالمياً لتشابك الثقافات. أما كان بالإمكان تجنب إغلاقه عام 2018. وهل يمكن إعادته بعد زوال الأسباب؟ وكيف تقيم التجارب الشعريَّة الإلكترونيَّة اليوم؟
أيّ مشروع سيكون له عمر افتراضي فقط. كما أنَّ ثمة مواقع كثيرة صارت أقواماً بأجمل مما كان يؤديه موقع (جهة الشعر). الآن صارت تاريخاً وأرشيفاً يمكن زيارته والنقل عنه في شؤون الشعر العربي الحديث كافة بأكثر من لغة.
أما فكرة تجنب إغلاقه فصارت صعبة, بعدما شحّت عناصر الدعم المادي الذي يتطلبه موقع بهذا الحجم. ولم يعد ممكناً إعادة فتحه للتحديث مجدداً, تفادياً للتكرار الذي لا أحبه.
* ذكرت سابقاً أنك إنسان مشحون بالتناقضات عندما قلت “لو فهموا المعنى لأهدروا دمي” وكأنك تقترب من الحلاج في قوله: “فاغفر لهم, فإنّك لو كشفتَ لهم ما كشفتَ لي لَما فعلوا ما فعلوا” , ولكن هل كنت ستطلب لهم المغفرة كما فعل هو؟
لستُ حلاجاً. وتناقضاته شأن شعري لا علاقة له بالتصوف. لدى الشعراء أسباب كثيرة ليكونوا عرضة لهدر الدم. من بين هذه الأسباب أنَّ الشعراء يبدعون ما يسمونه خلقاً, ولا يعتقدون بخالق سواهم. وبالطبع سيغفرون للآخرين.
* أخرجت الشبكة العنكبوتيَّة الكتابة من ضوابطها وحدودها.. حتى ضاع المبدعون وسط هذا الضجيج.. ما رأيك بذلك؟ وكيف للقارئ أن يميز المبدعين من المدّعين في هذا الخِضم الهائل؟
رأيت هذا المحذور مبكراً وكتبت عنه غير مرة. وطلبت نقداً أدبياً يتصل بهذه التجربة الجديدة, تفادياً لهذا الضياع الذي تتخبط فيه الكتابة.
لا أعرف. إنني الحق مثل الآخرين
* تؤكد في أكثر من مرة أنك لست مع الغموض, وربما دعوت المتلقي لمشاركتك ذلك. هل يجب على المبدع أن يتجنب الغموض في النص أو ماذا؟
قلت عن الغموض أيضاً إنه تاج الجمال في الأدب. علينا إدراك الفرق بين الغموض الجميل, والإبهام الفجّ. ليس الأديب متصنعاً للغموض.
* يجد قارئ ديوان “خروج رأس الحسين من المدن الخائنة” كأنَّ الشاعر باستحضاره الواقعة العظيمة, يرمّم خسارات ذاتيَّة وكونيَّة. أهي النقمة على ما كان, أم هي الثورة على ما هو كائن؟
تاريخنا مثل هواء العالم, نتنسّم هواء تاريخ البشريَّة بوصفه تراثاً إنسانياً يتيح لك قراءة كلّ شيء بحريَّة بدون تعصب.
* لك تجربة رائدة في المسرح البحريني, فما الذي يمكن أن يقال في المسرح, ولا يقال في الشعر خاصة, وفي الفنون الأخرى عامة؟
كنت من المعجبين بالمسرح كفن, خصوصاً أنَّ المسرح بدأ شعراً, وكنت من بين المنخرطين في العمل المسرحي, ولي أكثر من مساهمة محلياً, وكتبت كتاباً عن تاريخ المسرح في البحرين. لكنني الآن لم أعد معجباً بالمسرح عموماً. العمل المسرحي يحتاج لهامش حريَّة أكبر من الشعر, الحريَّة معدومة في حياتنا العربية.
* ككثير من الأدباء الكبار, ضمتك الغربة في ألمانيا خلال المنح الأدبيَّة التي قدمت لك. ألا يتسلل برد الغربة إلى روح المبدع, أم أنها تمثل اختلافاً ومغايرة معرفيَّة؟
(الغربة.. لا أذهب إليها إنها هنا)
قلتُ ذات نص. منح الإقامات في ألمانيا منحتني حريَّة مضاعفة لكي أكتب وأقول ما أحب. ثمة مكتشفات تتيح لك التجربة.
* على مستوى المجايلة والأجيال تقلبت الأحوال في خريطة الشعر العربي كثيراً, على مستوى الشكل والبناء والتركيب, ولا سيما الجيل الستيني. عند أي جيل يمكننا إطالة التوقف, ولماذا؟
سؤال جميل فعلاً. بالنسبة لي أقترح المزيد من تأمل ودراسة جيل الستينيات والسبعينيات.
* أكثر من خمسين عاماً مرّت على كتابك الأول (البشارة). ماذا تغير بقاسم حداد, بعد هذه التجربة الطويلة, وهل أدركتك اللاجدوى كما أدركت بعض المبدعين؟
لم أعد ذلك الفتى الغر المشحون بالأمل. صرت يائساً وأدعو لليأس بحرية.
* مرت الشعريَّة العربيَّة بتحولات عدة حتى انتهى بها المطاف عند قصيدة النثر. هل ترى أنها المحطة الأخيرة شكلاً ومضموناً, التي سيلقي الشعر أحماله عندها؟
لا أسمي (قصيدة النثر) مطافاً أخيراً. إنها شكل كتابة حرة فحسب. وأمام الشاعر ما لا يقاس من أشكال التعبير, مثله مثل الشاعر في كل زمان ومكان, والحياة سوف تتسع لكل شكل
* أخيراً ما النصيحة التي تود أن تقدمها للجيل الجديد من الأدباء؟
نصيحة.. !؟
ما زلت أحتاج إلى نصيحة الآخرين