السلوك البشري تحت مجهر فرويد

ثقافة 2023/07/12
...

أوس حسن

رغم ظهور بعض الأفكار والمدارس الجديدة في علم النفس بعد فرويد والتي انتقدت كثيراً من مفاهيمه المتمركزة في الرغبة الجنسيَّة واللاشعور، إضافة لمركزياته التاريخيَّة والأسطوريَّة التي استشهد بها كنماذج مثل عقدة أوديب والطوطم وقتل الأب؛ إلا أنَّ فرويد يبقى له الفضل الكبير في تأسيس أول نظريَّة علميَّة وجَّهت أنظارنا إلى أعماق النفس واللاشعور.
إنَّ الثورة التي جاء بها سيغموند فرويد في علم النفس تتمثل في إقصاء مركزيَّة الإنسان بوصفه كائناً  عاقلاً تصدر عنه الأفعال بإرادة واعية يتحكم بها العقل وينظم مسارها، وقد استنتج أنَّ هناك بنية غريزيَّة بيولوجيَّة هي من تتحكم بالدوافع وتحدد نمط الشخصيَّة من جانبها الأخلاقي والاجتماعي والنفسي.
وإذا كان فرويد قد قسّم النفس تقسيماً  بنيوياً  يتمثل في/الهو/ والأنا/ والأنا العليا، فإنَّ الأنا تربط الإنسان بالعالم الخارجي والموضوعات ومجمل العلاقات الاجتماعيَّة في واقعه المعاش وتتصف بوعي كامل وعقلاني، وتمثل الأنا العليا الضمير الأخلاقي، والرقيب الأعلى الذي يحاكم الإنسان ويردعه عن ارتكاب الشرور والسلوكيات الشاذة وغالباً ما تتصف بوعي جزئي أو نسبي قياساً إلى الأنا، أما (الهو) فهو مركز اللاوعي الذي يحتوي على الرغبات المكبوتة والغرائز الدفينة، وكل ما تعرض له الإنسان من حوادث في الماضي وصدمات، وهو منطقة التحليل النفسي التي اشتغل عليها فرويد مدة طويلة في مختبره، وقد أراد بذلك أن يؤسِّس للتحليل النفسي قاعدة علميَّة ومعرفيَّة خارج الطبّ النفسي الذي يرى في الأعراض النفسيَّة القاهرة مجرد اختلالات كيميائيَّة أدّت إلى توليد أفكار لا منطقيَّة وسلوكيات غير عاقلة، فيلجأ الطبّ النفسي إلى استخدام العقاقير والمهدئات لسدِّ ذلك النقص في التفاعل الكيميائي دون وجود أي حل جذري للمشكلة، فالتحليل النفسي يهدف قبل كل شيء إلى إيجاد رابط بين الحياة وبين ما يبتغيه المريض النفسي من آمال وتطلعات، والتطلع إلى حياة أفضل معناه أن يقبل المريض الدخول في مركز الصراع، وهذا لن يتم إلا بعد أن يكون المريض صادقاً مع نزواته الداخليَّة ونواقصه المدفونة في الأعماق، فالشاذ يصبح طبيعياً  واللاعقلاني يصبح عقلانياً بعد تفريغه ودمجه في مركب الوعي.
آليات التحليل النفسي (الهدم والبناء)
بناءً عليه توجّه فرويد إلى اللاوعي من خلال تفكيك عناصره الأوليَّة وإعادة بنائها وترميمها لكي تظهر إلى سطح الوعي ويتم هذا بعدة وسائل منها: التطهير أو التداعي الحر، وهو عبارة عن إتاحة حريَّة الكلام للمريض دون اللجوء لعمليَّة الإيحاء التنويم المغناطيسي فيتم إرجاع المريض إلى حالته النفسيَّة الأولى التي تعرّض من خلالها للصدمة فتعاود الذكريات الظهور مع انفعالاتها كافة وردات فعلها الشعوريَّة آنذاك، وهنا تتم عمليَّة الشفاء تلقائياً  وبطريقة تدريجيَّة عن طريق تفريغ تلك الانفعالات المكبوتة وحذفها من اللاوعي، والمحلل النفسي هنا عليه الأخذ بعين الاعتبار أنَّ اللاوعي ليس مجرد ماضٍ أو حادث نفسي سابق تعرض له المريض، فالماضي في اللاوعي يشتبك مع الحاضر ويؤثر به، كما أنَّ هناك الماضي البعيد والماضي القريب وكلاهما له تأثير متفاوت على الإنسان، ولا يقتصر الأمر عند هذا الحد فبنية اللاوعي تتشكل من الأفكار التي يعتقد بها المريض بأنها ليست ذات فائدة أو غير منطقية، كذلك من الأخطاء المرتكبة في الحياة الاجتماعيَّة والفرديَّة، ومن رموز الأحلام وزلات اللسان.
يتوقف فرويد عند نقطة مهمة في التحليل النفسي وهي الفجوات في الذاكرة، وهذه الفجوات يسميها فرويد بالفراغات التي تتمثل في نسيان بعض الأحداث الواقعيَّة عندما يقوم المريض بسرد حالته، فيذهب فرويد إلى أنَّ وظيفة المحلل النفسي هي ملء تلك الفجوات في الذاكرة عن طريق توجيه المريض نفسه ليركز انتباهه على ما تم نسيانه أو ما قام به المريض من تشويش في التسلسل الزمني للأحداث التي يسردها، ورغم المهمة الشاقة والإحساس الثقيل الذي يشعر به المريض إلا أنه في حال عادت الذكريات إلى الظهور ستصبح في منطقة الوعي ومن خلالها يمكن معالجة كل الأعراض النفسيَّة والظواهر السلوكيَّة الغريبة.
إنَّ بزوغ اللاوعي إلى الوعي، يقلل من التأثير الجسماني والمرضي، فالانفعال الذي يبقى مكبوتاً في اللاوعي أكثر ضرراً وتدميراً من الانفعال الذي يبقى في الوعي، فنحن كما يذهب فرويد لا نستطيع التحكم في نزواتنا إلا باستعمال طاقتنا النفسيَّة الأكثر سمواً، وفي ارتباط دائم مع الوعي.
 علينا أن نتوقف هنا قليلاً عند فكرة الدماغ والذاكرة، وهي أنَّ الدماغ في صلب تكوينه ليس هدفه الاحتفاظ الدائم بالمعلومات، وكذلك الذاكرة أيضاً فهي انتقائيَّة لبعض الأحداث والمشاهد التي تمر على الإنسان، لكنَّ فرويد ربما أراد أن يلفت انتباهنا إلى عمليَّة النسيان القصدي التي تصبح مع مرور الزمن نسياناً فعلياً، والنسيان القصدي يرتبط بالكبت عندما يتعرض الفرد لسلسلة من الصدمات والحوادث الأليمة، وكذلك ما يراوده في مخيلته وأحلامه من أفكار شاذة وغير معقولة والتي لا تلقى قبولاً  في المجتمع. ولهذا فإنَّ المهمة الرئيسة للتحليل ترتكز على قاعدة أساسيَّة هدفها التغلب على المقاومات الداخليَّة للكبت وتحطيمها كلياً من خلال فعل التذكر أثناء الكلام.
إنَّ القوى النفسيَّة التي أنتجت الكبت هي التي تعمل كعنصر مقاومة أثناء العلاج كي لا تعود الذكريات للظهور مرة أخرى، هذا ما استنتجه فرويد، وقد رأى أيضاً أنَّ الكبت هو منشأ الكثير من المشاعر السلبيَّة المكدرة لحياة الإنسان كالقلق والخوف والاكتئاب، وهذه المشاعر بحد ذاتها قد تكون عتبة أولى للعصابات النفسيَّة الكبيرة التي تبدأ من الكبت.
لقد رأينا أنَّ فرويد يربط النسيان بالكبت، وانفراج هذا الكبت يأتي عن طريق التذكر الذي لا يشوبه أي قناع أو تحويل.
عادةً ما تنتابنا ردات فعل شعوريَّة في كثير من المواقف والأحداث التي نمر بها، ونحن غالباً ما نظن أنَّ ردات الفعل تلك هي من صميم شخصيتنا أو عادة متأصلة في سلوكنا، إلا أنَّ فرويد يربط تكرار الحالات الشعوريَّة بالشيء المنسي المكبوت الذي لا يرجع في حالة تذكر، وإنما في حالة فعل، فالتكرار حسب فرويد هو تحويل لماضٍ تم نسيانه.

أهداف الحياة ودوافع السلوك الإنساني
 لم يخلُ فرويد من عين الفيلسوف المتأمل لكينونة الإنسان وأهدافه النهائيَّة في الحياة، ومع ذلك ظل ملتزماً بواقعه المهني وبعلميته الصارمة فلم يخضع لشطحات الخيال ولا للمثاليَّة المفرطة في تحليله للفرد وللدوافع المحددة لسلوك البشر وغاياتهم. لقد عرّى فرويد الحياة من لبوسها وأقنعتها الملونة وجعلها تنتظم في مسارين متعاكسين يتجاذبان مصير الإنسان تحت ثنائيَّة اللذة والألم.
يرى فرويد أنَّ مبدأ اللذة هو الدافع الأكبر والمحدد لسلوك الإنسان وهو الذي يحدد هدف الحياة، فالبشر يطمحون لأن يحصلوا على السعادة بشكل دائم، وأن يتجنبوا قدر الإمكان التعاسة والشعور بالألم.
إنَّ السعادة والألم نسبيان عند فرويد، فلا يوجد إنسان يحظى بالسعادة التي ينشدها ويصبو إليها، بل هناك ما يسمى بتجنب الألم أو تحاشيه والذي يكون مصدره عادة العالم الخارجي، ويصنف فرويد منابع الألم الإنساني إلى ثلاث قوى خارجيَّة تضغط على الإنسان: وهي قوة الطبيعة الساحقة المتمثلة في الأمراض والكوارث وغيرها من الأقدار، وشيخوخة الجسم البشري المكتوب عليه الانحطاط والانحلال، والافتقار إلى القدرة على تنظيم العلاقات بين البشر.
لا يمكن إزالة الألم بشكل نهائي عند الإنسان، بل هناك وسائل تساعد على تهدئة الألم والتقليل من مفعوله، وتحديداً  بما يعيق حركته وتفكيره، أولى هذه الوسائل هو تحويل وظيفة الليبدو الجنسي بتحويل أهداف الغرائز إلى العمل والإبداع والانخراط في نشاطات تمس الروح والكينونة، بحيث لا يعود بمقدور العالم الخارجي أن يقابلها بالتحدي أو يعارض تلبيتها ثم هناك الوهم الذي يمنحه لنا الخيال في الفن إذ يجعلنا ننفصل عن إكراهات العالم الخارجي لنغوص أكثر في أعماق ذواتنا، فنحصل على مقدار كبير من اللذة، لكنَّ فرويد يرى في اللذة التي يمنحها الفن للإنسان بأنها مجرد خدر خفيف يغمرنا وهو سريع الزوال، فإذا ما وفر لنا الفن درعاً واقياً ضد قسوة الحياة واحتياجاتها، فإنه ليس على درجة كافية من العمق لينسينا بؤسنا الواقعي والفعلي، حتى نشدان السعادة في الجمال الذي يستوقف حواسنا وأفكارنا كجمال الأشكال والحركات الإنسانيَّة وجمال الأشياء والمناظر الطبيعيَّة، يعوضنا عن الكثير من الأشياء، لكنه لا يوفر لنا إلا حماية واهنة من الأوجاع. يذهب فرويد إلى طريقة جذريَّة وعميقة ترى في الواقع المادي بأنه عدو الإنسان والينبوع الأول للألم، إذ يعزو قيمة أكبر لمبدأ الزهد والعزلة الروحيَّة التي توفرها تأملات اليوجا وبعض الفرق الباطنيَّة، لكنَّ الإنسان الذي لم يستطع المضي أكثر في تلك الإمكانيَّة لن يصل إلى شيء عادة، إذ سيجد الواقع أقوى منه، وسينقلب مجنوناً أو مصاباً بالهذيان.
يتكلم فرويد أيضاً عن بعض العقاقير والمهدئات كالكحول والمخدرات وغيرها من الأدوية، والتي تعمل على تغيير طفيف في التركيبة الكيميائيَّة للمخّ والأعصاب، ولا تختلف نتيجتها عن النتائج السابقة مضافاً إليها احتماليَّة الإدمان أو التعرض للموت المفاجئ، لكنها تمنح الإنسان فترة أطول من الوسائل الأخرى في تهدئته من الآلام، والاستقلال التام عن العالم الخارجي وسطوته.
غرائز الحياة والموت
يحمل الإنسان في داخله وفقاً لفرويد غريزتين هما: غريزة الحياة (الإيروس)، وغريزة الموت (الثانتوس)، وكلتاهما تتضافر وتتناحر في أعماق الكائن البشري، وهذا ما يسمح لنا بتفسير ظواهر الحياة وسلوك البشر وانفعالاتهم، ترتبط غريزة الإيروس بكل ما هو سامٍ وخلاق ومبدع، ويكون نشاطها صاخباً يمجّد الحياة ويقدسها وتتمثل في الحب والجنس والفن والأعمال الاجتماعيَّة، أما غريزة الموت فهي تبقى مدفونة في أعماق الكائن وتعمل بصمت على انحلال الإنسان وتدميره، مما يؤدي إلى إفناء الذات أو إفناء شيء في العالم الخارجي، فتكون مدفوعة دائماً بمبدأ هدام ومدمر، وهذا ما يفسر لنا الكثير من الشرور، وما يعترينا من انفعالات سلبيَّة كالغضب والحقد والكراهيَّة والرغبة في الانتقام، أو التلذذ بالمظاهر الساديَّة والمازوخيَّة التي تشمل إيذاء النفس والآخرين.
 أخيراً يستنتج فرويد أنَّ هدف كل حياة هو الموت، وفي داخل كل منا رغبة لا واعية للموت إلا أنَّ غريزة الحياة تكبح جماحها دائماً أو تقلل من حدتها بدرجات متفاوتة بين البشر.