عفاف مطر
تولستوي في كتابه (ما هو الفن؟) الصادر في العام 1896 تخيل حواراً بينه وبين إنسانٍ متوسطِ الثقافة، وطرح عليه سؤالاً عمَّا هو الفن الذي يضحي لأجله الفنان بوقته وجهده؟ الإنسان متوسط الثقافة سيجيب بأنَّ الفن هو العمارة والنحت والرسم والموسيقى والرقص... إلخ، لكنَّ الملاحظ أنَّه وعلى سبيل المثال في العمارة توجد أبنية بسيطة ولكنها تعدُّ فناً، وأبنية جميلة وأنيقة ولكنْ لا تُدرج ضمن الفن. المثال ذاته ينطبقُ على الشعر والموسيقى والرسم والشعر ...الخ.
إذن ما الذي يميز الأشياء حتى تندرج ضمن مسمى الفن؟ تولستوي يقول إنَّ كل الأنواع تقعُ ضمن حدين، إما حد الفائدة العمليَّة، أو حد المحاولات الفنيَّة الفاشلة؛ لكنْ كيف نستخلص ضمن هذين الحدين ما هو الفن؟ هذا التساؤل يطرحه تولستوي مرة أخرى على الإنسان متوسط الثقافة أو حتى الفنان الذي لم يتعمق في دراسة وفهم فلسفة الجمال ويرى أنه غالباً سيجيب: أنَّ الفن هو النشاط الذي يفصح عن الجمال. فيسأل تولستوي مجدداً: إذن هل تستطيع أنْ تضع الباليه والأوبريت ضمن قائمة الفنون؟ سيجيب: نعم الأوبريت الممتع وعروض البالية الجميلة يعدّان فناً بقدر ما يبرزان الجمال. هنا يقول تولستوي يجب أنْ نتوقف عن سؤال الإنسان متوسط الثقافة عمَّا يميز عروض الباليه الجميلة والاوبريت الممتع عن الباليه غير الجميل والاوبريت غير الممتع، ذلك أنَّ الإجابة ستكون صعبة عليه بالتأكيد. بالتالي يسأل تولستوي هل يمكن أنْ نعدَّ مصمم الأزياء ومصفف الشعر والعامل في صناعة العطور والطاهي .. الخ فنانين أم لا؟ غالباً سيجيب الإنسان متوسط الثقافة بالنفي ويعدّ أنَّ أصحاب المهن السابقة لا يندرجون ضمن مسمى فنانين. وهذا ما يعدّه تولستوي خطأً لأنه يتعارض مع علم الجمال؛ ذلك أنَّ إدراك الفن بوصفه تجلياً للجمال أمرٌ ليس بهذه البساطة التي يتصورها الآخرون، لا سيّما بعد أنْ أدرجَ أساتذة علم الجمال كل ما تستشعره حواسنا الخمس جميلاً ضمن قائمة الفنون.
ويأتي تولستوي الآن الى السؤال الأكثر تعقيداً؛ ما هو الجمال؟ تولستوي يرى أنَّ مفهوم الجمال غير واضحٍ، وما زال تحديده مفتوحاً على كل التأويلات والاحتمالات، ويتجدد بطريقة جديدة مع كل مؤلَفٍ جديد، على الرغم من أنَّ تأسيس علم الجمال يعودُ الى 1750 (أي كان قد مرَّ عليه مئة وخمسون عاماً لحظة تأليف تولستوي لكتابه) وعلى الرغم أيضاً من تراكم الكتب التي تحدث فيها مؤلفون وفلاسفة وفنانون عن علم الجمال، ولا تزال كلمة الجمال كلمة غاضمة. يقول تولستوي في روسيا كلمة جمال تعني فقط ما يستهويه النظر بعيداً عن القيمة والأفكار وما الى ذلك، وحتى حين يتمُّ وصف الفكرة أو السلوك أو الموسيقى أو الشعر... الخ بالجميل فإنَّ الإنسان الروسي لن يفهم هذه العبارة، إذ يستخدم الروس كلماتٍ أخرى للتعبير فمثلاً السلوك الجميل بالسلوك الطيب، والفكرة الجميلة بالفكرة الجيدة أو الحسنة والموسيقى الجميلة بالموسيقى العذبة.. إلخ، لهذا يعتقد تولستوي أنَّه علينا أنْ نكفَّ عن عدّ الفن مجرد متعة؛ ذلك أنَّ هناك رأياً يقول إنَّ الفن مجرد متعة، بل يجب أنْ ننظرَ الى الفن كحالة يمرُّ بها الكائن البشري وهذا سيجعل من الفن إحدى وسائل التواصل الإنساني، بمعنى أنَّه أي عمل يقوم به الفنان بصدق سيكون قادراً على خلق تواصلٍ بينه وبين المتلقي، وعبر الفن سيكون في مقدرة الناس توصيل ليس الكلام فحسب بل المشاعر والأحاسيس والأفكار، وبطبيعة الحال كل إنسان قادرٌ على استقبال الفن عبر حواسه الخمس.
الفن الصادق يؤثر بكل نعومة وسلاسة وعفوية في الآخرين؛ لأنَّه يصدرُ من مشاعر حقيقيَّة غير متكلفة أو مزيفة. تولستوي يؤكد أنَّ أهم ما في الفن حتى يكون فناً هو توحد مشاعر الفنان مع مشاعر المتلقي، ومهما كانت المشاعر بسيطة إلا أنَّه إذا استطاع صاحبها التعبير عنها بصدقٍ بأي وسيلة كانت (شعر، نثر، موسيقى، لوحة، بالحركة.. الخ) واستطاع التأثير في الشخص المقابل فهو فنانٌ وغير ذلك فهو لغوٌ وفوضى.
تولستوي يُعرف الفن بأنه ظاهرة إنسانيَّة ووسيلة من وسائل التواصل بين البشر، ويستدرك ويحذرنا ألا نذهب بعيداً وننظر الى كل ما يحيط بنا وننظر إليه ونعده فناً.
الفن كان سبباً رئيساً لنهضة أوروبا التي بدأت في إيطاليا عبر النحت والرسم. ينظر رجال الكهنوت الى الفن نظرة ضيقة حتى يومنا هذا، وكثير جداً منهم حرموا الفن، ورفضوا قيمة الفن وأهميته، لكنهم في الوقت ذاته استعملوه للترويج عن معتقداتهم الدينيَّة، فرأينا الكثير من الأفلام السينمائيَّة والمسلسلات التي تحكي قصصاً تاريخيَّة دينيَّة غير صحيحة ومملوءة بالأكاذيب. تولستوي يرى تفاوت ذائقة البشر حول الأعمال الفنية أمراً طبيعياً، فما يعجبني قد لا يعجبك ويستعمل كلمة جميلة لوصف تأثير الفن وهي العدوى، العدوى هي الإحساس الذي ينتقل من الفنان الى الآخر أي المتلقي، وكلما كانت هذه العدوى أشد كان الفنان أرفع مستوى، والفنان الحقيقي كالرسام مثلاً هو الذي يرسم لنفسه لا للآخرين، وبفعل العدوى ستنتقل مشاعره للآخرين.
في النهاية يؤكد تولستوي أنَّ صدق العاطفة والمقدرة على التعبير وبساطته أسبابٌ كافية لإنتاج فنٍ متميزٍ وما عداه ليس سوى فنٍ زائف.