مفارقات في تاريخ الآداب الكلاسيكيَّة
د. نادية هناوي
للأدب اليوناني كما للأدب العربي أثر في الآداب الأوربيَّة، فإليها ترجمت نصوصه الأدبيَّة ومصنفاته البلاغيَّة والنقديَّة عبر قرون قريبة العهد بالنهضة الأوربيَّة وأفول الحضارة الإسلاميَّة. واحتلت بعض المصنفات الأدبيَّة مكانة خاصة ومنها حكايات ألف ليلة وليلة التي عرفها الأوربيون بصورتها العربية فترجموها عدة ترجمات وصارت ــ وما زالت ــ تعرف بالليالي العربيَّة، ولا مناص من القول إن هذه المصنفات والمرويات التراثيَّة ما كان لها أن تكون وتتشكل قواعدها سواء في النظم أو القص أو النقد لولا التفاعل مع آداب الأمم السابقة ذات الحضارات العريقة كالحضارة الرافدينيّة والفرعونيّة والهندية والصينيّة وغيرها.
فضلا عما كان للشاعر والحكّاء من مركز وأهمية في المجتمع العربي سواء قبل الإسلام أو بعده فتطور كثير من القواعد وغدت للقصيدة والحكاية أنماط وأشكال على الصعيدين الشعبي والرسمي.
بيد أن هذا كله لا يقر به الفكر الغربي، إذ لا حقيقة لديه سوى أن الأدب اليوناني هو أصل الآداب الأوربية ومن ثم ليس لمرويات الشرق ولا فلسفاته القديمة تأثير في هذا الأدب. ولا غرابة بعد ذلك أن يقف مؤرخ الأدب الأوربي في استعادة الماضي عند حدود عصر النهضة فلا يتعداه، بل لا يكترث لما جرى في العصور الوسطى من متغيرات على صعيد الأدب والنقد لأنه يعلم أن ليس له فيها أي انجاز، وإن وجد فلن يكون في صالحه. ولهذا يكتفي بوصف أدب العصور الوسطى بالساذج والبدائي والرعوي والرومانسي. ومن ثم تكون المفارقة واضحة بين وضعين متناقضين:
الوضع الأول/ يعتِّم فيه النقد الأوربي على الأصول بابتكاره المنهج المقارن وفيه تكون الآداب في مصاف بعضها بعضا بوصفها نتاج عمليات التأثر والتأثير وداخل إطار تتقاطع فيه الحضارات اجتماعيا فتتمركز نظرية الذات الغربية. والغريب أن أكثر نقاد الأدب لم تشغلهم مسألة التتالي التاريخي بين الأدبين العربي والأوربي والتأقلم الذي حصل بينهما قبل وخلال عصر النهضة الاوربية، بل شغلتهم المقارنة وتأثروا بما وضعه المستشرقون من دراسات لا تخرج عن حاضنة المتروبولية الغربية.
الوضع الثاني/ فيه الاستعمار هو القوة المحركة للاستشراق بكل ما كان له من نشاط بحثي موجه نحو البحث عن مخطوطات العرب ومدوناتهم التراثية وترجمتها وتحقيقها حتى غدا الاستشراق في جوهره (مذهبا سياسيا مورس إراديا على الشرق لان الشرق كان أضعف من الغرب) كما يقول مهدي العامل. وفي ما لو عثر الباحث العربي على مخطوطة وراح يحققها يبقى عمله في سياق مرسوم سلفا يستوعب جهده في إطار نظر دوني، وفيه التفوق أوربي والتخلف شرقي. ومن الطبيعي بعد ذلك كله أن يكون النقد العربي الحديث والمعاصر، مطبوعا بالتبعية للنقد الأوربي وهو يتناول القضايا والظواهر الأدبية ناظرا إلى الأدب الأوربي الحديث بوصفه نتاج النمو البرجوازي في النصف الثاني من القرن الثامن عشر.
ولقد كان الأدباء العرب في عصر النهضة على دراية بما لتراثهم السردي من ثراء فني وتقاليد ترسّخت على قاعدة عتيدة، وبسبب ذلك أنشئت في أوربا مدارس للروايات والحكايات الشرقية بل ان الأديب الأوربي كان على دراية بتقاليد السرد العربي القديم، والظروف ساعدته في أن يطورها فكان أن ظهر فن الرواية لا كاختراع حصل جزافا، بل كنتاج من نواتج التواصل بين الحضارات، أسهمت تحولات مختلفة في ولادته، يقول الدكتور محمد يوسف نجم: (إنّ النفوس كانت في ذلك الوقت تواقة إلى المغامرات الرومانسيّة متهيئة لقبولها والاستمتاع بها لأسباب تعود في أصولها إلى القرون الوسطى والى مغامرات الفرسان).
ولكن البضاعة الأدبية التي وصلت أوربا عن طريق ثلاث وسائل؛ الأولى القوافل التجارية والثانية المناطق التي احتلها الصليبيون وعاشوا فيها زمنا والثالثة الأندلس وصقلية وغيرهما من البلدان التي قامت فيها دولة المسلمين، أعيدت لنا بعد حملة نابليون العسكرية على مصر ولكن بشكل آخر عكسي. به صارت أوربا هذه المرة هي المؤثرة في الشرق بعد ان كان الشرق مؤثرا فيها. وهو أمر طبيعي فـالأمم الشرقية والغربية وجميعها دائنة ومدينة في تراث الحضارة الإنسانية. ويظل التفاعل حاصلا، ومن ثم لا غرابة في أن تشبه قصص سليم البستاني مثلا قصص سكوت ودوماس إلى حد بعيد، على بعد ما بينه وبينهما من الناحية الفنية وكذلك الأمر في قصص كرم ملحم وقصص جورجي زيدان وفرح انطون ومعروف الارناؤوط وسعيد العريان تشبه قصص ايبرس وليتون.
ولا شك في أن في السرديات الكلاسيكية العربية والأوربية شواهد شاخصة ونماذج أصيلة تدلل على أن الآداب هي نتاج عمليتي التأثر والتأثير. ليس ذلك حسب، بل إن التأثر والتأثير مسألتان من ضمن مسائل كثيرة هي نتاج الاستجابة في اِتباع الأصول.
وكثيرا ما نتصور أن الكشف عن أمهات المخطوطات التراثية وتحقيقها وطباعتها إنما جرى بوازع معرفي أظهره المستشرقون الأوربيون تجاه اللغة العربية وأدبها وعلومها بعد ان أتقنوا هذه اللغة وامتلكوا أدوات البحث فيها. بيد أننا في تصورنا هذا، ننسى أن ذلك كله جرى بعد حركة ترجمية كبيرة من اللغة العربية إلى اللاتينية بدأت من القرن الحادي عشر وبسببها انتقلت المعارف والآثار العربية الأدبية والعلمية من الأندلس إلى أوربا عبر الجزيرة الأيبيرية التي حكمها العرب ثمانية قرون 711ـ 1492م وانحصر حكمهم في القرنين الأخيرين في غرناطة جنوب اسبانيا.
ولكان لالفونسو العاشر أو الحكيم دور مهم في تلك الحركة الترجمية، فاهتم بالشعر والقصص العربية وشجع على كتابة التاريخ. ومن الكتب التي أمر بترجمتها كتابي (كليلة ودمنة) و (حيل النساء ومكرهن) وقد ظهر أثر هذين الكتابين في كثير من المجموعات القصصية التي كتبت بعد ذلك باللاتينية وفي اللغات الأوربية الأخرى الناشئة. وممن شاركوا في هذه الحركة الترجمية: كلوني بطرس المكرم 1092ـ 1156 وجيرود كريموتا 1114ـ 1187 الذي ترجم إلى اللاتينية نحو ستين مصنفا لمشاهير الكتبة كالرازي وابن سينا في الرياضيات والطب، والدومنيكي النابغة البرتوس الكبير 1193ـ 1280 وكان يفسر كتب أرسطو مستندا إلى ترجمات منقولة عن العربية عن الفارابي وابن سينا والغزالي. ومن المترجمين ايضا ريمند لوك 1235ـ 1315 والانكليزي روجار باكون 1214 ـ 1292.
وذكر المؤرخ الأب شيخو أن السماعنة نقلوا بإيعاز من الباباوات إلى مكتبة الفاتيكان عددا لا يحصى من كنوز الشرق الأدبية بينها المئات من تآليف العرب وبسبب ذلك اتسعت النهضة في كل أقطار أوربة وصار عدد من الدارسين يتعلمون اللغات الشرقية وحفلت مكاتب باريس ولندن وأكسفورد وليدن بآثار العرب ونشرت كتب عربية جليلة لأعظم أدباء العرب والشرق. وعرفت روسيا الشرق من خلال رحلة الأسقف الروسي إلى فلسطين عام 1108م ودوَّن مخطوطة عنها، وتأثر بوشكين وليرمنتوف وغيرهما بالترجمات عن الأدب العربي وأسهم بندلي الجوزي في القرن التاسع عشر في ترجمة كثير من نصوص أدبنا إلى اللغة الروسية.
وإذ خمدت حركة الترجمة وتحولت أوربا (تحولا كاملا في القرون الثلاثة التي أعقبت ظهور المطبعة من الثقافة الشفوية إلى ثقافة المطبوع). فإن حركة جديدة ظهرت، تتمثل في تحقيق المخطوطات العربية والشرقية، وفتح بعض المستشرقين مدارس للتحقيق وتعليم اللغة العربية مثل سلوستر دي ساسي ولويس لنغلاي وجان جاك ريسك وبوركهرت وكغوليوس واربنيوس حتى صارت مدينة ليدن منارا للآداب الشرقية.
وباستمرار عمليات الترجمة، انتقلت إلى انجلترا وفرنسا كتب كثيرة مثل(معراج محمد مرشد الحكاء/ حكماء روما السبعة/ قصص روما / كتاب الحب المحمود/ الديكامرون) وصار النشاط الاستشراقي ملمحا من ملامح القرن التاسع عشر وفيه تعاظمت قوة أوربا بسبب اتساع نفوذها الاستعماري في بلدان الشرق وتضاعف وجودها العسكري والاستيطاني فتنوعت من ثم استراتيجياتها في الاستحواذ على مقدرات الشعوب المستعمرة.
وبسبب حركتي الترجمة والاستشراق، سادت فكرة أن للأوربيين أثرا في تحضر الشرق أكثر مما تأثر بالحضارة الإسلامية. وفي العام 2008 كرس المؤرخ الفرنسي سيلفان غوغنهايم مؤلفا بكامله هدف فيه هو الآخر إلى إقامة الدليل على ان أوربا لم تكن مدينة بشيء للإسلام اي أن الحضارة العربية لم تأت فعلا بما يسهم في معرفة أفضل للفلسفة الإغريقية، وهذه أسطورة من ضمن أساطير أخر قيلت وبدت كأنها حقائق. أما لماذا هي أسطورة، فللأسباب الاتية:
ـ أولا/ أن الحضارة الإغريقية في عناصرها وجغرافيتها وفلسفتها ودساتيرها هي شرقية وتبدأ من جزيرة قبرص إلى ضفاف نهر العاصي أو نهر دجلة.
ـ ثانيا/ أن المدرسة الأفلاطونية نشأت في الإسكندرية وكان الطابع الذهني السامي ملحوظا على كل ما عملته المدرسة الرواقية وكان سينيكا وشيشرون وابيتكيتس واورليوس من أتباع هذه المدرسة.
ــ ثالثا/ أن ما تم نقله في العصور الوسطى من معارف وثقافات وآداب عربية، لعب دورا مهما في تقدم ايطاليا وأسبانيا ثم أوربا كلها.