تأصيل ديوان «أُمّ نزار الملائكة»

ثقافة 2023/07/13
...

 ريسان الخزعلي

(1)
أنشودة المجد، ديوان الشاعرة (أُم نزار الملائكة).. وأم نزار (1909 – 1953) هي أُم الشاعرة الرائدة نازك الملائكة التي قامت بجمع الديوان وكتابة مقدمة تاريخية/ اجتماعية له منجّمة بالعبارة: البصرة في 6/ 10/ 1965.
طُبع الديوان في مطبعة النعمان – بغداد وقد ساعدت جامعة البصرة على طبعه، وأُهديت عائداته إلى منظمة التحرير الفلسطينية ببغداد. وعلى هامش مئويَّة نازك الملائكة يكون من المفيد أن نستعيد الديوان احتفاء  بالشاعرتين ومراجعة المشتركات بينهما في الأصل والتأصيل.
(2)
جاء في المقدمة الكثير من التفاصيل الاجتماعية والثقافية التي قام عليها تكوين الأسرة، وسنأخذ من هذه المقدمة ما يُضيء لنا بعض الجوانب غير المعروفة عن الشاعرة/ أُم نزار الملائكة/ نشأةً وتكويناً وحياةً شعريَّة.تقول نازك: أُمي، يرحمها الله، هي (سليمة الملائكة) أو سلمى كما كان أبي يحبُّ أن يُسمّيها. ولدت ببغداد يوم 29 شباط 1909، وتوفي أبوها وهو في ريعان شبابه لم يتجاوز السادسة والعشرين من العمر تاركاً أرملة وثلاثة أطفال أكبرهم أمي. ضمّتها إحدى عمّاتها فربّيت في حضنها، وعندما بلغت الرابعة عشرة تزوّجها أبي وهو ابن عمّها وكان يومئذٍ في الثامنة والعشرين من العمر.لم تنل أمي تعليماً منتظماً، ألا أنّها تلقت مبادئ القراءة والكتابة في كتّابٍ للإناث كان يُجاور البيت. وما كادت تتزوّج حتى أشرفَ أبي على تعليمها وكان حينذاك مدرّساً للغة العربيَّة في دار المعلمين الابتدائية ببغداد.وعن بدايات تشكيل وعيها الثقافي العام وبخاصة الشعري منه، تقول نازك: انطلقَ أبي يقرأ لها الشعر العربي القديم، ووضع بين يديها مكتبته التي تضم كنوز الأدب العربي وشيئاً من الفكر المعاصر، فوجدتْ في ذلك كلّه عالماً شغفها حبّاً. وطالما سمعت أمي في طفولتي تتغنّى وهي تؤدي أعمال المنزل بشعر جميل بثينة وكثير عزّة وقيس بن الملوّح والشريف الرضي وأبي فراس الحمداني وابن الفارض والبهاء زهير وسواهم.
وعن أوّل قصيدة كتبتها/ أُم نزار الملائكة/ تقول نازك: ومما يُلاحظ أنَّ أُمي لم تكتب الشعر في صباها، وإن كانت تملك حُب الشعر وملامح الشاعريّة. وإنما بقيت شاعريتها كامنة فلم تتفجّر بأوّل بيت من الشعر إلا بعد أن بلغتْ الثامنة والعشرين من عمرها. وكان ذلك في يوم مشهود ما زلتُ أتذكره. ففي ربيع عام 1936 نهضتْ أمي ذات يوم في ساعة مبكرة من ساعات الفجر وانغمستْ في الكتابة بسرعة وحدّو وكأنّها تتلقّى الهاماً من الملأ الأعلى. واستفاق أبي من النوم – كما أخبرنا فيما بعد - على صرير القلم وخشخشة الورق فسألها مندهشاً عمّا تفعل، وعندما لم تعطهِ جواباً عاد إلى النوم. ثم فاجأته في الصباح بأن وضعت بين يديه قصيدة في رثاء الشاعر جميل صدقي الزهاوي، وكان قد توفي في تلك الأيام فاهتزّت لوفاته نفسُها بسبب حبّها لشعره، وكان مطلع تلك القصيدة الأُولى:
أجهشَ الشعرُ باكياً ينعاكا/ حينَ داعي الموتِ الزؤام دعاكا وقد سَعُدَ أبي سعادة عظيمة بهذا التفجّر المفاجئ، وراح يتلو القصيدة على كلِّ زائرٍ يزورنا. ثم دفع بالقصيدة إلى مجلة كانت تصدر في تلك الأيام هي مجلة (الصبح) فنشرتها في عددها الصادر يوم 11/ 4 / 1936. ومنذ هذا التاريخ انطلقت أمي تنظم الشعر في حماسة وحرارة فلا نراها في فراغ قط، إلا وفي يديها قلم وورقة وهي تكتب بانهماك.أما عن وعيها الفكري/ السياسي، فقد أكّدت نازك بأنَّ أمها قوميَّة الانحياز سلوكاً وتفكيراً وكتابةً شعريَّة، وهذا ما سنلاحظه في معظم قصائد الديوان. ومثل هذا الوعي أثّر كثيراً في نازك، وكان وراء تشكيل وعيها المُشابه أيضاً.
(3)
بعد أن نضجت شعرية أم نزار الملائكة، وبزوغ شعرية نازك، ووجود خال نازك (جميل الملائكة) الذي يكتب الشعر أيضاً، أصبح البيت فضاءً شعرياً يتبارون فيه بطريقة تبدو غير مسبوقة، وذلك أن يكتب أيٌّ منهم بيتاً شعرياً يختار فيه الموضوع والبحر الشعري ثم يُعرض على كلٍّ منهم ليضيف إليه إلى أن تكتمل القصيدة؛ أو أن يتم تحديد البحر الشعري ليكتبَ الجميع بهِ بالتناوب:
أ (أم نزار) – هاتَ يا قلبُ لحنكَ الشاعريّا/  وترنّم فقد قسوتَ عليّا
ن (نازك) -  أيُّ صمتٍ قد ذرَّ في عمقِ أعما/  قِكِ لونَ الردى فلم يُبقِ شيّا؟
ج (جميل) – هاتِ واصدح يا خافقي وترنّم/ نَغَماً شادياً ولحناً شجيّا  وهكذا إلى أن تكتمل القصيدة، وقد ضمَّ الديوان ثلاث قصائد مكتوبة بهذه الطريقة التي ساعدت على تطوير المهارات النظمية للشاعرتين على السواء في حينه، ومن ثم حصول التصعيد الشعري عند الشاعرة نازك. ويمكن الإشارة إلى أن هذا الشكل الشعري قد جعل من نازك عروضيّةً متمسكةً بالتأصيل حتى بعد أن كتبت بالشكل الجديد الذي كان لها فيه السبق مع الروّاد في الأربعينيات.
(4)
توزّعت قصائد (أنشودة المجد) على سبعة فصول، يتضح في ثلاث منها الانحياز القومي، والمشاركة الوجدانيّة مع قضايا الأمة العربية وبخاصة القضية الفلسطينية والوحدة العربية:
قصائد لفلسطين، قصائد في العروبة والوحدة، قصائد في أحداث العراق، القصائد العاطفيّة، في الشعر والشاعر، في موضوعات متفرقة، من الشعر المشترك.
إنَّ شعر/أم نزار/ القومي لا يختلف عن مثيله لدى شعراء حقبتها الزمنيَّة، كونه خطابيّ النبرة، سطحي المفاهيم، مباشر، تحريضي، لا ينطوي على فهم عميق لطبيعة الصراع العربي الإسرائيلي، شعر مفاهيم تداوليَّة/ إعلاميَّة/ شفاهيَّة، شعر يفتقد البناء الصّوري:
أمّتي هذي شبوحُ العارِ لاحت فاحذريها  
هذه الأجراسُ أجراسُ الردى فلتسكتيها  
إِنّها أثوابُ ذلٍّ فاحذري أن تلْبسيها.
وحتى شعرها الذي أسمتهُ بالعاطفي، يخلو من التجربة والحسيّة وحرارة الانفعال، شعر مرهق برومانسيَّة طاغية:
أيّها البلبلُ غرّد واملأ الدنيا حنينا/ فأغانيكَ تُحيلُ الكونَ حسّاً وفتونا
غنِّ واسكب قلبكَ الواله سحراً ورنينا/ أيقظ الروحَ فأنغامكَ توليهُ فنونا
إنَّ من أهم ميزات شعر/أم نزار الملائكة/ هذا الهمس البارد، همس لا يتوافر على الإدهاش ولا لفعلِ المخيّلة فيه خيطٌ يوصل ما بين الروحي والجسدي. ولا غرابة حين نقول بأنَّ هذا الهمس البارد قد تأثرت به الشاعرة نازك الملائكة وطغى على شعريتها. وفي المفتتح الختامي، لا بدَّ من التأكيد بأنَّ/ أم نزار الملائكة/ شاعرة في حدود تجربتها وزمنها وطبيعة الشعر في الثلاثينيات والأربعينيات؛ ويمكن اعتبار أجود شعرها جذراً أوّلَ لشجرة شعر الرائدة/ نازك الملائكة/ العمودي مع فارق التصعيد الفني اللاحق وطبيعة موضوعات الشعر وصولاً إلى جذوة التجديد في الشعر العربي. وهكذا جاءت نازك الملائكة بديوان (انشودة المجد) لتثبيت الأصول
وتأصيلها.