حبة البندق

ثقافة 2023/07/15
...

 حاتم حسين
مثل أيةِ أم تحتضن ابنتها ذات السنتين من العمر. تقف في طوارئ المشفى الذي قرّر فيها الأطباء ادخالها صالة العمليات.فقد كانت واضحة لديهم من خلال تشخيص الأشعة بأن التشخيص هو نفسه،  مثلما ذكرت الأمُّ بأنها ابتلعت حبة صغيرة من البندق ظاهرة في الأشعة، ولكننا سنرى إن كانت حبة البندق، أو لا سمح الله شيئاً آخر.
وبانتظار عملية إخراج الحبة التي توقفت على باب الرئتين. قال الطبيب الجراح :-إنّها عمليةٌ شاقة لطفلة بمثل عمرها.. ربما لاتتحمل التخدير، ونحن نخضع في مثل هذه الحالات للقضاء والقدر، لذا عليك التوقيع والموافقة لإجرائها، فنحن بين الحياة والموت. ولكن إن شاء الله ستمضي الأمور إلى خير، وهنت عزيمةُ الأمِّ، وهي تسمع قول الطبيب، وأنا أراقب الحدث، والأم غير مصدقةٍ لهذا الإجراء ولما تسمع! إلّا أنّها تضعضعت، وشعرت بالانهيار، كيف لها أن تسلم ابنتها لفريق العمليه! فقد بدأ زوجها الشاب بإقناعها، لأنّ الحبة ما زالت معلقةً على باب الرئتين، ودفعها سوف يأتي بالموت المحتم، كان الموقف صعبا والطفلة ذابلة. وممسكة بخناق أمِّها تبكي بيأس، ومرارة، رفضت إعطاء ابنتها. حين بدأ زوجها يلحّ عليها، وفريق العمليات بانتظار إدخالها. وهناك ازدحامُ الحوادثِ الكثيرة التي تتنظر الدور في إدخالها لصالة العمليات، كلُّ الفحوصات تشير إلى أنّه لابدَّ من إجراء العمليه، وإلّا فإنّها ستموت. ولكنَّ أيَّ وحشٍ سيأخذ ابنتي من أحضاني. ابنتي التي دقات قلبها تشترك بدقات قلبي وروحي. كان الجميع يتأفّف من المشهد، ويعذر الأمَّ لموقفها.إذ ليس أمامهم خيار إلّا أن يقنعوها ويكلموها بكلِّ لينٍ ولطف، فقد كانت الدقائق حبلى بالوجع والألم، وكلّ الجالسين في الانتظار، فقد ارتسمت على وجوههم الحيرة والصمت... موقف على باب العمليات... والفريق الطبي محتجّ. ويرجوها أن تتّخذَ قرارا سريعا خوفا من نزول الحبة إلى قعر الرئتين. وأما هي ستتحمل نتيجة ابنتها وعليها تسليمها فورا، والطفلة ممسكة بتلابيب أمِّها أفطرت قلوب الحاضرين من البكاء والتعاطف، يتردّد في أذنيها أنّها لن تدلف إلى أحضانها ثانية. وأنها ستموت وتتحمل المسوؤلية. تشجنّت أعصاب الأم، وهي تفلت يديها مرغمة عن طفلتها التي كانت تنادي عليها (زمرد) وبعد الإلحاح من زوجها الشاب وذويها اضطرّت أن تفكَّ يديها ليأخذوها من أحضانها، كان الوقت متأخراً منتصفَ الليل.. وما أن صارت بيد الفريق حتّى صاحت الطفلةُ بصوت فطرَ قلوبَ الجالسين الذين كانوا يشاهدون الموقف، وما أن قالت:وهي تمدُّ ذراعيها، وتنطق بيأس (ماما) انهارت الأمُّ الشابه وندت عنها صرخة مدويّة هزّت أركان المكان، حتّى أن الكثير من الحاضرين، قاموا من أماكنهم لمشاركتها والتخفيف عنها ومنحها الصبر والأمل بالله.لكنّ صوتَ إبنتها ظلَّ يتردّد في مسامعها تلك الجملة الموجعة، التي فطرت قلب أمِّها... (ماما تعبير أن لا تتركيني يا أمي)، وهي تراها في آخر مشهد تمدُّ ذراعيها نحوها. صرخت بجنون بعد أن غابت ابنتها عن ناظريها ومزّقت سكون الليل، الذي كان يشير إلى منتصفه! وأي آهٍ تعبر عن فقدها لابنتها، وهي ترى أحضانها فارغة من دونها. بل أيّ علاقةٍ عظيمة التي يفرزها هارمون (الاكوستوسين)، الذي يفجّر عمق العلاقة النفسية والبايولوجية في مشاعر الأمِّ. تلك المشاعر التي ترافقها منذ سنوات الطفولة حين كن يلعبن ويحتضنا لعب العرائس. كان زوجها يزرع الأمل في قلبها، والنسوة ذوات الأمومة والخبرة يشاركنها.الكلّ كان مضطربَ المشاعرِ بسبب إبنتها وصرختها.ومع ذلك لم تتوقف شفتاها عن الدعاء.كانت شابة مؤمنة بربِّها، فالجميع شاركها الدعاء. كل شيء مكنون في الداخل. الداخل الذي يرفض أن ينسى مشهد إبنتها التي تمدّ ذراعيها مستنجدة. (أن لا تتركيني يا أمي)، حتى غابت عن أنظارها، ودخلت صالة العمليات، لم يتزعزع إيمانها بالله الذي يحيطها، بل لم تكن وحيدة في مصابها. حين التقط الطبيب الجراح بالملقط حبة البندق المعلقة على باب الرئة، وأخرجها بسهولة، هكذا جاءت الأخبار المطمئنة من غرفة الإفاقة، بأنّ الصغيرة تبكي على أمِّها... صاح الطبيب الجراح مجاملاً: أين أمُّها، التي كانت ممدّةً على السدية القريبة، ما أن سمعت صوت الطبيب حتى فزّت ليسلمها ابنتها التي فتحت ذراعيها لأمِّها معبرةً.. أن لا تتركيني يا أمي.