احتفاءً بالصداقات النبيلة.. حين يحب الشاعر جميع الناس

ثقافة 2023/07/15
...

 سعد صاحب
الشاعر قاسم شاتي في طبعه كائن متمرد يرفض جميع القيود، وهذا التمرد انعكس على الشعر أيضا، فراح يبحث عن طرائق تتسم بالحرية والاسترخاء والانطلاق والخلق الجميل، وبروح شاعرية عالية، ومضى يحطم كل السدود الواقفة في طريق الذات الشعرية الثائرة على الاطر الجامدة. وثابر مجتهدا لإيجاد كتابه نثرية جديدة، تجمع بين الاشياء الروحية والصعلكة الثورية المحمودة واللغة الجامحة النافرة من كثرة القوافي والاوزان، والاكثار من الانصات إلى ايقاعات كونية قادمة من جهات مجهولة.
يقول الشاعر في الاهداء (الحب أن ترى نفسك في الاخر/ فتتماهى معه وتحسه/ في كل الأشياء ولا تراه/ إلى زوجتي أم مسار).
وهذا يعني الاتحاد الوثيق، والعيش المشترك في جسد واحد لروحين، كل روح وجدت سعادتها المطلقة في روح أخرى، تشبهها في السلوك والطباع والايمان والاختيار، روحان لا تفترقان الا بفعل الموت، أو بمؤثر خارجي قسرا بسبب الفراق.
وهذه العبارة قريبة جدا من مقولات المتصوفة التي ترى في العشق جنونا، لأن وجود العاشق يبقى دائما مقترنا بنور من يهوى، فان خبا مات وكانت النهاية.
(يا امرأة تسكن في جسدي/ خذيني واعتقيني فالبرد على الشرفات ينام/ خذيني كي اتحرر من ظلمات الصيف/ ومن شبح توعدني بالحب والقتل والخراب).
يحتفي الشاعر كثيرا بالأصدقاء، لإيمانه المطلق بان الصداقة قيمة انسانية كبيرة، وعنصر ضروري لمواصلة الحياة بشكل سليم، باعتبارها جالبة للسعادة والفرح والاطمئنان والسرور، وغيابها يشكل نقصًا واضحًا في مسيرة الكائن الاجتماعي، وحضورها يزيد من الخير والمحبة والسلام، ودون اشباع هذه الحاجة المركزية، لا يحقق الإنسان ذاته في المجتمع بطريقة صالحة.
(أي سر أنت يا صاحبي/ منذ ابتدأنا صغارا/ نرسم بعضنا في زاوية اخرى من الطريق/ حتى صار الوقت بيننا حجرا/ تحرقه حكايا النساء/ وصار الموت وراء القافلة/ فراغا اسودا يتصاعد/ ثم يعود بلا عينين).
كل الكلمات يمكن إدخالها في قصيدة النثر الحديثة من دون تحفظ، لا سيما المفردات الجارحة، أو المستخدمة في الحياة اليومية المنبثقة من داخل الواقع، ولا بأس الاستفادة من تقنيات الربورتاج الصحفي والملصق
واللوحة والموسيقى ومن متون المسرحيات العامية.
ولكل شاعر عوالمه المميز بها، ولا ضير من تسمية الامور دون التقليل من حضور الشعراء الابداعي في الساحة، فهذا ثوري مختص بالرفض والاحتجاج والثورة، وذاك غارق بالبلاغة والاوهام وفخامة المواضيع، وهؤلاء يلهثون وراء عوالم المجون والخمر والاستلاب، وهناك من عرف بأسلوب السخرية والاستهزاء والهزل والنقد والدعابة، والشاعر الجيد ينتبه لهذه الجماليات ويستفيد من كل ما اليه متاح.
(تمنيت أن أعرفه/ وفي يدي ساعة تقرأ الزمن بالمقلوب/ كي تنتفض الأنهار خلاف عادتها في الجريان/ وتهجر آخر النساء قلبي/ ثم تستعيد ملامحها الغجرية/ كي تصعد ثانيا إلى السماء/ فيعلق الرجال ذكورتهم في دكاكين الجزارين).
المكان عند الشاعر ينطوي على خواص لا تغادر الذاكرة، هو بمثابة شبكة من الاتصالات الكهربائية الدقيقة التي تربط الإنسان بماضيه بقوة، ولا غرابة إذا كان متنافرا بالتصميم أو جميلا بشكله الهندسي.
وكم من الامكنة بقت روائحها معنا في الثياب والحقائب وعند السفر، وما زلنا نتذكر أشكالها على مر السنين، وما غاب عن خيالنا الوانها القاتمة، وكلما وجدنا شيئا قريبا منها بنسبة ضئيلة، يعيد الينا جميع الصلات المقطوعة بشكل سريع، وحتى هذه اللحظة يشدنا الحنين للطواف بين بناياتها الخربة.
(الغرفات التي تطل على زقاق الحي/ والصبية الصغار ما زالوا يلعبون تحت الشبابيك/ من غير جدتنا أم حبيب/ من غير رغيف أمنا صبيحة/ المرأة التي تكاد أن تضيء من عفتها).
الآخر بنظر الشاعر قاسم شاتي جوهر أصيل، وتلك (الأنا) الثانية منحت لنا أسرارها وارتبطت بشكل مباشر، واختفت الخصوصية بين ذاتين متحابتين، هما شخصان يمارسان حياتهما بشكل منفصل.
وفي الحقيقة أنهما شخص واحد يعيش بنفس الادراك، والتصور، والتماثل، والذكريات.
وربما جسد غريب في مكان ما من العالم يتحد مع جسدي، وهذا معناه أني هنا في بيتي وفي وطني، وانني امكث في المنافي البعيدة هناك.
وللنفس قرابات اخرى كثيرة، متمثلة بالناس الطيبين الاوفياء، والصعاليك، والشعراء، والمجانين، والثوار، والدراويش، وبهذا تتكون لدينا ذات جديدة فيها الكثير من المشتركات والحقائق والتجارب، وهذه الذات الموزعة في شخوص كثيرين، شديدة الارتباط بهم ولا تريد عنهم الانفصال (لأني لا أحب المنافي التي قتلت جبار عليوي/ لا أحب الأرض التي اقفلت أبوابها/ لا أحب الاصدقاء كثيراً/ لا أحب الاعداء الذين شربوا كأس موتك يا صاحبي).