دور الاجتهاد القضائي في تطوير النظام القانوني

آراء 2023/07/15
...

فارس حامد عبد الكريم
تحدد القواعد القانونية، باعتبارها معيارا للسلوك الاجتماعي، للأفراد مقدماً مراكزهم القانونية، وتجعلهم على بينة من نتائج تصرفاتهم مما يضفي قدراً من الطمأنينة على الحياة الاجتماعية. إلا أن السير التلقائي للنظام القانوني لا يتحقق دائما، فإن توافرت عوامل تدفع الفرد إلى التوافق مع القانون، فإن هناك عوامل أخرى تدفع البعض إلى الخروج عليه مردها القصور الذاتي والمصالح المتعارضة، وهكذا تظهر على النظام القانوني عوارض تعيق سيره التلقائي.

وعندها يبرز دور القضاء، لتحقيق فاعلية القانون في الحياة الاجتماعية بإزالة هذه العوارض حماية للنظام القانوني.
وللقضاء دور عملي متميز لما يضفيه من الفعالية العملية على النظام القانوني، من خلال عدة ادوات منها الاجتهاد في التفسير.
واجتهاد الرأي يكون في حالتين:
 الأولى: عدم وجود نص يحكم واقعة معينة لأنه (لا مساغ للاجتهاد في مورد النص).
والثانية؛ هي حالة وجود النص، ولكنه نص غامض تتسع عباراته لمعانٍ ودلالات مختلفة ويختلف الفقهاء في تفسيره.
 فيمكن للقاضي ان يتوسع مثلا في مدلول معيار الغاية، من خلال التوسع في المعنى الجوهري للنص، فإذا تعذر ذلك أمكن البحث عنه في المبدأ العام للقانون التي استمد منها القانون عموم أحكامه.
ذلك ان القاضي ملزم بإيجاد حكم لكل حالة معروضة علية وبخلافه يعتبر منكراً للعدالة.
وقد تأثر مشرعنا بالاتجاهات الحديثة في تفسير القانون، فنصت المادة (5) من القانون المدني العراقي رقم (40) لسنة 1951 على أنه (لا ينكر تغير الاحكام بتغير الأزمان)، ونصت المادة (3)من قانون الإثبات رقم (107) لسنة 1979 على أنه (إلزام القاضي باتباع التفسير المتطور للقانون ومراعاة الحكمة من التشريع عند تطبيقه).
وهناك أمثلة كثيرة عن اجتهادات المحاكم التي استقرت واصبحت كالقانون، فقد اجتهد القضاء الفرنسي، وقرر أن البطلان الذي يشوب بيع ملك الغير هو بطلان نسبي، فاستقر هذا الاتجاه قضاءً،رغم أن المادة (1599) مدني فرنسي، لم تنص سوى على أن بيع ملك الغير باطل ولم تحدد هل هو بطلان مطلق أم بطلان نسبي. وكذلك أخذ بنظرية الإثراء دون سبب، رغم انه لا يوجد مبدأ عام في القانون الفرنسي يقررها.
ومن الأمثلة على اثر تغير المبادئ والمثُل الاجتماعية على الاجتهاد القضائي، إقرار نظرية التعسف في استعمال الحق دون نص خاص، فقد كان ينظر إلى حق الملكية نظرة تقديسية، إلا أن النظرة الاجتماعية للحق تغيرت، وأصبح ينظر لها كوظيفة اجتماعية، فظهرت اتجاهات فكرية تنادي بضرورة الحد من اطلاق الحقوق وتقييدها بواجب عدم التعسف في استعمالها.
تأثر القضاء الفرنسي والمصري بهذه النظرة، فأقر مبدأ نسبية الحقوق وقيدها بواجب عدم التعسف في استعمال الحق، واعتبر من يتعسف في استعمال حقه كمن يرتكب عملا غير مشروع. كما أورد القضاء العديد من القيود على مبدأ العقد شريعة المتعاقدين، التي أملتها النظرة الإنسانية الجديدة للعلاقة بين الدائن والمدين، فأجاز القضاء المصري تخفيض التعويض المتفق عليه، إذا كان مبالغاً فيه إلى درجة كبيرة، مستجيباً لاعتبارات العدالة، ومرجحاً إياها على الاعتبارات، التي أملت النص كما أن اعتماد القضاء الانكليزي على المعايير القانونية أتاح له تطوير الأحكام القضائية، التي كانت تتقيد بالأعراف القضائية، ومنها معيار المعقولية، ومفاده بأن التفسير ينبغي أن يكون منسجماً مع مقتضيات العقل والفهم الصحيح للأمور، وبتطبيق هذا المعيار على الشروط العقدية التي اختل توازنها، بسبب ما طرأ من ظروف جديدة لم تكن بالحسبان عند التعاقد، يتبين: أن تلك الشروط تقوم في الأصل على مصلحة الدائن والمدين معاً، إلا أن تطبيق معيار المعقولية، يكشف عن وجود مصلحة ثالثة، هي مصلحة الجماعة، التي يهمها أن تنفذ هذه الشروط، بشرط ألا يترتب على تنفيذها إفلاس مدينين (تجار) معقولين، إلا انهم كانوا سيئي الحظ، بسبب ظروف أجنبية لا دخل لإرادتهم في تحققها.
فحكم القضاء الانكليزي بفسخ مثل هذا العقد، حيث ثبت لديه أن المدين لم يكن مخطئاً، وان التنفيذ قد أصبح مرهقاً بشكل لو أمكن لرجل عاقل ان يتنبأ به لما تعاقد.
*النائب الأسبق لرئيس هيئة النزاهة الاتحادية