ياسين طه حافظ
ليس هذا لعب لفظي، إنه أسى وطرافة وطرافة وأسى من نوع آخر. فأنا كما أنت وسوانا، نعلم وربما نعرف جيداً الإنسان الروبوت. ذلك الذي يضيفون لإمكاناته البشرية، أو لحضارته..، بعضاً مما في الوحش وبعضاً مما في البدائيّة والغاب. فهم يعلمونه، يربونه، أو يدرّبونه على الافتراس وأكل اللحم النيء للكلب أو للإنسان ويتلفون بالتدريب ذائقته الإنسانيَّة المتحضرة و»يخلصونه»، كما يقولون، من الشفقة والتعاطف. فهو وأمثاله يقتلون البشر الآخرين، ينحرونهم أو يطلقون عليهم النار ساعة يتلقون الأوامر، يأتي الأمر فينفذ كما في أي روبوت بالضغط على زرّ فيه.
قبل استفحال الشر في الأرض، في العصور القديمة، استعان الإنسان بقوى سواه، حجراً، عظاماً، حيواناً حباً كاملاً كالفيلة والثيران، كما استعان بالنار ليُخضع سواه أو لينتصر عليه. استعان بغير الإنساني، العجلات مثلاً والآلات الحربية. أيضاً ومن بعد وهو يتقدم في الحضارة استعان بها لاستكمال تحضره. النظارات وسماعات الاذن وبطارية القلب والاطراف الصناعية، وهي نماذج نظيفة مما استعان به. العقاقير تقع ايضاً في باب استعانته بأشياء من خارجه للتمكن ولمزيد من القوة أو الرؤية ومن الإثارة والنشاط أو لإزاحة الهموم والتوتر.
لكن المسألة، كما يبدو، لا حدود لها. فعصرنا تجاوز الفزّاعة إلى «متطورِّها إلى إنسان آلي يطرد الطير وأحياناً يخشاه الإنسان من بعيد. وبدلاً من أن يقذف حجراً على سفن الاعداء ليغرقها، راح يُنيب عنه مدفعاً يقذف قنابل. وإذ أراد أن يطير ولا يستطيع، صنع طائرة فطار وصبّ نيرانه على من يكره، عدواً ليطيعه ويستجيب أو مسالماً لكن يريد أن يذله أو يستغله. وهكذا تطورت استعانات الإنسان أو استعمالاته لما يتوافر خارجه لينجز ما يريد بقوةٍ أو بقوى غيره، مما تتفوق كثيراً على ما لديه.
هذه الأيام شغلت الصحافة وتكاثرت الكتب الصادرة عن الذكاء الصناعي والروبوت.. وما نبهّني لأن أعطي الأمر أهمية أكبر وأن أقدر خطورته، إعلانٌ يتكرر. شخصية روبوت. بهيئة فتى رقيق أو فتاة. (ويبدو أن إضاعة الجنس مقصودة..) وسيم، وديع رقيق الصوت يخاطب البشر الأحياء، يخاطبنا:
«اطمئنوا لن نؤذيكم!»
وآخر: «لا تخافوا لن نأخذ أماكنكم في العمل».
وإعلان مريب آخر:
«لا خوف من فقدان السيطرة ونحن مسالمون..».
وطبعاً هذه الإعلانات الروبوتيَّة، هذه التطمينات للبشر الذي ابتدعها، وراءها شيء هو خوف السيطرة عليه، سواء في التوجيه أو الاتجاه أو في مخالفة التنفيذ، بسبب خلل، أو التوقف قبل الأوان أو الانطفاء في أحرج اللحظات. في الحرب مثلاً او في العمليات الجراحيَّة مثلاً، وقد يتغير اتجاه حركة ما يرسله الانسان للفضاء، ولا أُخيفكم بما قد يكون...
هذه المخاوف تستند إلى أساطير قديمة وصلتنا، فضلاً عن ادراك عصرنا. قبلها وصلتنا مخطوطات ورسوم عن «مصنوعات» بشريّة انتهت نهايات مأساوية. ربما نقول: حسناً إذا كانت النهاية سيئة لها. فالخوف علينا من استمرارية ضررها، إشعاعها، قذفها النيران أو النووي التكتيكي الذي ينحرف مؤشر فيه فيتجاوز حدوده. ربما يكون سبباً ايضاً ليس في الحسبان هو حرق الأرض، غاباتها وناسها والحياة..
استعانة الإنسان بقوى أخرى ليزيد قوته أو ذكاءه أو طاقته أو قدرات دفاعه أو تدميره، ليس أمراً جديداً. فطالما استعان الناس بالحجر وبالسحر واختاروا من الأعشاب والسموم والمعادن، لا سيما الزئبق والذهب والشمع والعاج ما يعينهم على تحقيق ما يريدون، وما دام الحديث عن السحر والأعشاب، أقول جلجامش ليس اول من راح يبحث عن عشبة تطيل العمر أو تديم الحياة وتمنح البقاء أو الخلود. البحث عن الاعشاب النادرة التي تقي والتي تشفي والتي تؤذي والتي تجلب المحبة او تلك التي تسبب النفور، واحدة منها التي تبعد الشيخوخة او تطيل الشباب. هي مسألة لها تاريخ حافل بالشواهد، أو كما يقولون، بالمنجزات! وقد كان فيها وما يزال فيها عزاء للكثيرين.. ثمة جانب للموضوع، إنساني تماماً ذلك ان نماذج بشرية عظيمة، او مهمة أو هي رموز لما في البشرية من افراد متميزين ومُمتَحَنين، أن البطل العظيم منهم فيه عيب. فيه نقطة ضعف، مقْتَل. تغطي هذه النقطة أو هذا العيب الخفي، القوة والجبروت أو الانتصارات. آخيل في كاحله واوديب في قدمه وأسماء أخرى. إذا وُخِزَتْ سقط السر والبطل، وإذا عرفه العدو تمكَّن منه. وهؤلاء الابطال يقاتلون ببطولة فائقة او يبرزون بأفعالهم بقدرات تشبه السحر حتى يأتي من يعرف نقطة السرّ أو يصادفها في رمايته، فيسقط ذلك البطل مغلوباً على أمره، يقع في أيدي أعدائه في غاية الذل والحسرة على ما كان ومما آلَ إليه. وهي تراجيديا الإنسان المتميز الذي غالباً ما تفجعه، وربما تفجعنا، نهايته. السؤال الآن. لماذا لا يكتمل الإنسان ولماذا الحزن حصة البشر؟ وما هو الموقف من روبوت متفوّق جميل ومصنوع بذكاء عظيم، ينجز عملاً عظيماً وخيرّاً بعد عمل عظيم وخيرّ للبشرية، حين يعطل فيه شيء ونرى اضطرابه كأن يطلب نجدتنا ولا نستطيع مساعدته. فيتمزق امامنا قِطعاً وشظايا وتظل عيناه الصافيتان تنظران لنا؟ أيقربنا هذا الشعور الى بداية تآلفنا مع مصنوعات الذكاء الصناعي وأننا صرنا لا نجد نشازاً ولا غرابة وأنها «مخلوقات» من صنع عالمنا، بعضها جميل نافع وبعض مستَلَب تتحكم فيه قوة في داخله لا يدري بها وبأسرارها، وهو مستسلم لا يستطيع التحكم فيها وليس له إلا أن يُنفِّذ ما حُكِم به كأي سيزيف أسطوري كنا نقرأ عنه.. ومثلما نحن ضحايا مشيئات أخرى، هو أيضاً ضحية او فداء لمحاولاتنا اليائسة لامتلاك قوى تحررنا، او تمكِّننا من حياة افضل من حياتنا.
كل هذا الصعب يهون، ولكن أهو أمر هيّن أن يكون الانسان، ان يكون البشر على هذا الكوكب، حياتهم ومستقبلهم، رهنَ مصنوع لا يعقل ويتحرك ببرنامج من صنع غيره؟، عزاؤنا أنه ليس أفضل منا، وها نحن كما يريدنا الآخرون، نحن
روبوتات أيضاً!