تقنين الاستثناء

آراء 2023/07/17
...


   عبدالزهرة محمد الهنداوي                            


الاستثناء في اللغة، هو أن تخرج من الكلام مالا تريد أن يقع في ذهن المتلقي،  من خلال استخدام إحدى ادواته، وأبرزها "إلّا" ‘ وهو بهذا يمثل الشواذ التي تخرج عن القاعدة، لذلك عدديا يبدو المستثنى أقل من المستثنى منه، ولكن ما رأيكم لو انقلبت الصورة، وتبادل الطرفان، المستثنى والمستثنى منه، موقعيهما، فأصبح الثاني أولا، والأول ثانيا، ما الذي سيحدث هنا، هل ستتغير نواميس الكون، هل سيحتج، أساطين اللغة ونحاتها، على هذا التغيير، وهم يشاهدون القواعد التي أرسوا دعائمها عبر مئات السنين، تنهار امامهم، وهم غير قادرين على ايقاف هذا الانهيار؟.

فعلا  أن المشكلة تبدو شديدة التعقيد، وهنا نتحدث عن الاستثناء في اللغة، فكيف سيكون الحال لو اصبح الاستثناء قاعدةً، والقاعدةُ استثناء، في الحياة بنحو عام؟.

هل سيحتج القاعديون، ويقومون بوضع الصبات الكونكريتية امام واجهات مقرات الاستثنائيين، كما تفعل شفلات البلدية مع اصحاب المحال، الذين يمتنعون عن أداء "الفدية" عن يدٍ وهم صاغرون؟.

هنا باتت القضية أكثر تعقيدا، لأنها لم تعد مرتبطة بأداة استثناء بسيطة، كل عملها أن تنصب الذي يأتي بعدها، والتقليل من عدده، وتسحب منه قدرة التمرد على مَن يأتي قبل "إلّا" وهم الاغلبية، حكما وعددا، فعندما نقول (حضر الموظفون إلا زيدا) فهنا ليس بامكان زيد أن يلغي حضور الموظفين ويحل محلهم، لأنه لم يحضر أصلاً.

في واقعنا المُعاش، حل المستثنى بدلا من المستثنى منه في الكثير من المفاصل، لدرجة أن الناس اعتادوا على هذا الاحلال، بل راح الكثير منهم يمارسه، من دون وجل، على اعتبار أن القاعدة انهارت، وحل الاستثناء محلها.

والسؤال هنا لماذا حدث هذا التغيير الذي يرقى الى درجة التحول، وهل بالإمكان العودة الى حكم القواعد، مقابل وضع الاستثناء في مكانه الصحيح، وبمعنى آخر، أن العمل بالاستثناء يجب أن يكون بشرطه وشروطه، حكما 

وعددا.

نعم بالامكان، لأن أساس عملية زحف المستثنى على القاعدة، كان بسبب  ضعف تطبيق القوانين، وتغوّل الكثيرين على تلك القوانين، وهنا اتذكر ايام جائحة كورونا، وفي ظل اجراءات الحظر المشددة، صارت الاستثناءات اكثر من غيرها، حتى تشعر بوجود هذه الحركة الكثيفة في الشارع، أن لا وجود للحظر أصلا!، وإن كنتُ من المعارضين لتلك الاجراءات، لأنها اسهمت في اثارة الرعب لدى الناس، كما أنها لم  تنجح في الحد او التقليل من انتشار 

الوباء.

إن العودة الى الوضع الطبيعي تتمثل باستخدام المسطرة في تطبيق القوانين، فلا فرق بين زيد او عمرو الا بضمان حقيهما في القانون، فاذا ضمن الاثنان هذا الحق، واطمأن عمرو أن زيدا لن يضربه، لوجود رادع قانوني، عند ذاك فقط ستعود القواعد إلى الظهور، وسيدافع عنها الناس بقوة، في ما لو شاهدوا أحدا، يحاول التسلق عليها، والامثلة على ذلك كثيرة، ومنها على سبيل المثال لا الحصر، الالتزام بالاشارات المرورية، بصرف النظر عن وجود رجل المرور من عدمه، وهذه تتطلب اجراءات رادعة، مع حملات توعوية مستمرة، حتى تترسخ وتتجذر عملية احترام ضوابط السير، وتصبح ثقافة سائدة، وسلوكا اجتماعيا عاما، وهكذا ، او الاستحواذ على الأرصفة وتحويلها الى "گراجات"، لوقوف السيارات، أمام انظار المعنيين، وهكذا دواليكم ، بالنسبة لمفاصل حياتية اخرى، لا تتسع المساحة لاستعراضها، فلو فعلت ذلك، لصرتُ متمردا على قواعد المقال.