14 تـمـوز ثــورة أم انـقـلاب؟
باسم عبد الحميد حمودي
من يقرأ هذا الرأي عليه مسبقاً، ألا يتخذ رأيا جازما قبل أن يستكمل القراءة. ولا بد من القول هنا إني لا أسعى إلى تغيير قناعات، بل إلى كشف أوراق لم تكشف عن بوادر ذلك اليوم المفصلي في تاريخ العراق الحديث، وعن وقائع ما حدث، من دون طعن بأحد.
كان الاتفاق بين جماعة الضباط الاحرار قبل قيام الحركة – بشهادة ناظم الطبقجلي ورفاقه خلال محاكمة عبد السلام عارف أمام المحكمة العليا الخاصة- أن تقوم الحركة دون قتل أو إعدام أحد.. مثلها في ذلك مثل ما حدث في انقلاب 23 تموز في مصر عام 1952.
وكان الاتفاق ايضا- بشهادة الطبقجلي ومحيي الدين عبد الحميد، وسواهما في المحكمة العليا، التي سميت محكمة الشعب - أن يقام مجلس قيادة الثورة... وهو أمر لم يحدث، نتيجة استغفال قاسم وعارف القوى العسكرية الأخرى، وانفرادهما بالقيام بالحركة، وتفويت الفرصة على قيام مجلس الثورة وقيام الديمقراطية أيضا.
كان محيي الدين عبد الحميد بدرجة عميد ركن هو والعقيد الركن عبد الوهاب الشواف، والمقدم الركن وصفي طاهر، والعميد الركن ناجي طالب وآخرين اعضاء في اللحنة العليا للضباط الاحرار، الذين ينبغي أن يشكل منهم مجلس قيادة الثورة برئاسة الزعيم (العميد الركن) عبد الكريم قاسم, وكان العقيد الركن عبد السلام محمد عارف والعقيد عبد الرحمن محمد عارف عضوين أيضا، إضافة إلى أمين سر الهيئة العليا العقيد المتقاعد رفعت الحاج سري والعقيد المهندس رجب عبد المجيد.
هؤلاء هم اعضاء الهيئة العليا ومن أعضاء الهيئة، تم الاتصال بالاحزاب السياسية العلنية حزب الاستقلال والحزب الوطني الديمقراطي والاحزاب الجماهيرية السرية الحزب الديمقراطي الكردستاني والحزب الشيوعي وحزب البعث وحركة القوميين العرب.
لم يكن أمر تصفية الملك والوصي والسعيد متفقا عليه، بل أن تجري محاكمة الوصي والسعيد لا قتلهما مباشرة والتحفظ على الملك الصغير وطرده من البلاد مع الاسرة المالكة، كان إجراء مجزرة قصر الرحاب، قد تمت بدعوة علنية عبر الراديو- كلنا سمعناها- بخطاب مباشر من عبد السلام عارف، مع التأكيد على عبد الاله, وكان التنفيذ قد تم بأيدي ثلاثة من النقباء، هم النقيب عبد الحميد السراج والنقيب مصطفى عبد الله والنقيب العبودي.
كان النقيب العبودي خارج تنظيمات الضباط الاحرار، بينما كان عبد الله والسراج منتميين لها لكن التنفيذ كان مشتركا وحدثت المجزرة المشابهة لمجزرة آل رومانوف ونقلت الجثث إلى الطب العدلي.
جثة عبد الإله سحقت بقسوة مع جثتي الوزيرين الأردنيين ابراهيم هاشم وسليمان طوقان اللذين أمسكا عند بوابة وزارة الدفاع المقابلة إلى جريدة الزمان ومقهى البلدية (ايامها), أما نوري السعيد فقد هرب يومها وعبر النهر مختفيا في بيت محمد العريبي, وعندما خرج مرتديا عباءة نسائية، وكشفه المتجمهرون أطلق رصاصة من مسدسه على صدغة وسقط قتيلا بشهادة وتحليل الضابط اسماعيل حمودي والمؤرخ عبد الرزاق الحسني وتوفيق السويدي وسواهم.
لم يشكل مجلس قيادة الثورة، بل تعاون الزعيم مع العقيد عارف للقيام بالحركة بمعزل عن الآخرين، وأعلنا البيان الاول وتشكيل مجلس السيادة برئاسة نجيب الربيعي، ومجلس الوزراء برئاسة الزعيم عبد الكريم قاسم، يساعده العقيد عارف نائبا ووزيرا للداخلية.
تم الخلاف بعد هذا علانية بين دعاة الوحدة العربية مع الجمهورية العربية المتحدة (مصر وسوريا) ودعاة الاتحاد الفيدرالي والصداقة السوفيتية...أي بين قوى اليمين واليسار.
وقف الزعيم قاسم مع قوى اليسار، بينما اجتمع اليمين تحت جناح عبد السلام، الذي أقيل من مناصبه وسفر إلى بون سفيرا، ثم عاد فجأة ليتم اعتقاله ومحاكمته، بتهمة محاولة قتل الزعيم، الذي لم ينفذ حكم الاعدام بحقه ووضعه في السجن لفترة، ثم اطلق سراحه ليلتف اليمينيون حوله، ويقوم بتنفيذ انقلاب رمضان الدموي عام
1963.
هنا لا بد لنا من الاشارة إلى بعض جوانب الحكم الفردي، الذي قاده الزعيم متمتعا بداية بدعم الجماهير، التي حاربت حركة التمرد في الموصل في اذارعام 1959, ثم عانت الأمرين من سوء الإدارة والقرارات الفردية، التي اتخذتها الحكومة ومنها:
1 - يشير بعض الكتاب إلى قانون الاحزاب والجمعيات الذي صدر عام 1960 والذي سمح للاحزاب السياسية الوطنية المساندة للحركة ان تستمر في نشاطها.
واقع الامر أن وزارة الداخلية العراقية، منعت الحزب الشيوعي من الحصول على اجازة العمل، وأعطت الإجازة باسم ذات الحزب إلى السيد داود الصائغ، الذي استولى على اسم هذا الحزب العريق زورا، وبات موقفه سخرية سياسية ليس الا.
الأمر الاخر في ديمقراطية 14 تموز محاولات قائد الحزب الوطني الديمقراطي كامل الجادرجي، من الحصول على اسم الحزب واعطائه لجماعة السيد محمد حديد (وزير المالية الذي انشق عن الجادرجي)، وكنت شاهدا – وانا بعد محرر صغير في جريدة الاستقلال- على اعلان السيد الجادرجي اللجوء للمحكمة لاعلان احقيته بأسم الحزب فأتخذت المحكمة قرارا باحقية الجادرجي باسم
الحزب.
وهنا اتخذ محمد حديد وجماعته اسم الحزب الوطني التقدمي, بينما تآلف الحزب الاسلامي، ولم يسمح للحزب الجمهوري الذي شكله الجواهري مع مجموعة من كهول السياسة امثال عبد الفتاح ابراهيم وعبد الله جدوع وسواهما من العمل.
2 - تسبب اصدار قرار قضائي بحق الاستبدال بالنسبة لرجال الاقطاع المصادرة أراضيهم، بقيامهم بالحصول على أفضل الأراضي، وتوزيع معظم الاراضي المصادرة بين الأقرباء، ما أضعف من قانون الاصلاح الزراعي، وأخرجه من أهدافه المبتغاة، وكان قتل وسجن فلاحي الميمونة وغيرها نماذج لهذا الإجراء.
3 - كان إعلان أحقية العراق بالكويت، واعتباره قضاء عراقيا يحكمه قائم مقام هو امير الكويت ذاته (بعد إعلان استقلاله دوليا)، واحدة من المآخذ على حكم الزعيم، خصوصا أن القوات البريطانية والعربية، قد وقفت عند الحدود العراقية بمواجهة القوات العراقية التي اكتفت بالثبات عند الحدود.
4 - كان التضييق على قوى اليسار واضحا منذ عام 59 حتى قيام مجزرة شباط 63، وكانت الاعتقالات لقوى اليسار مستمرة وارتفع سيف النقل الاداري للموظفين والمعلمين، الذي يبدون على غير وفاق مع السلطة شبه العسكرية.
5 - كانت قوى الأمن والشرطة تسند قوى اليمين في انتخابات المنظمات الشعبية، مثل نقابة المعلمين ونقابة الاطباء ونقابة المحامين، وتم التضييق على اتحاد الادباء بعد خروج رئيسه الجواهري من العراق، كما تمَّ انتخاب السيد عبد العزيز بركات نقيبا للصحفيين مع تغيير التركيبة القيادية للنقابة, بينما أغلقت جريدة (اتحاد الشعب)، وصحف اليسار الأخرى.
6 - إذا كانت هناك من ميزة فريدة للزعيم في بناء مدينة الثورة، فإن بوادر هذا العمل قد بدات زمن فيصل الثاني ببناء منطقة الفيصلية, وهي نواة المدينة الجديدة التي أنشئت زمن الزعيم, إذ كان رحيل أصحاب الصرائف من منطقة الشاكرية بالكرخ إلى خلف السدة، قد تمَّ تمهيدا لبناء الفيصلية مع قيام الدولة ببناء البلاط الملكي (الذي صار القصر الجمهوري)، وقصر الملك (البديل عن قصر الرحاب) في منطقتي الشاكرية وأم
العظام.
7 - عند قيام الحرب بين الجيش العراقي وقوات البيشمركة بزعامة الملا مصطفى البارزاني، أصدرت القوى الوطنية بيانات تدعو للسلم، كان أبرزها البيان الذي وقعه ألف مثقف من أطباء وصيادلة وقانونيين وأدباء وصحفيين ورجال تعليم واقتصاد.
وجه بيان الألف مثقف (وكنت واحدا منهم) إلى الزعيم عبد الكريم قاسم، دعا فيه رجال الفكر والعمل السياسي إلى ايقاف القتال (السلم لكردستان) والديمقراطية للشعب العراقي.
كان الرد إن تم اعتقال عدد من هؤلاء بأمر الحاكم العسكري العام أحمد صالح العبدي، واحالة عدد منهم إلى المحاكم العسكرية العرفية، وفي مقدمتهم الصحفي شمران الياسري (أبو كاطع)، وزميلاه حميد رشيد ومنير رزوق والحكم عليهم بالسجن ثلاث سنوات بتهمة اقلاق السلطة.
واستمرت معارك الجبل حتى قيام انقلاب شباط 63 وقتل الزعيم والقيام باعدامات علنية للشيوعيين وسواهم.
8 - لم تكن هناك ثورة في 14 تموز، بل حكم فردي، تلاعب باليمين واليسار، حتى انتهى بمجزرة شباط التي تلتها انقلابات ومجازر اخرى، لم يعشها كثيرون من القرّاء اليوم، لكنها صارت ثم امست ذكرى نحاورها من منطلقات وقناعات متعددة.