علي حمود الحسن
شاهدت قبل أيام فيلم "ثورة الجزائر " (1966) للمخرج الإيطالي المقل غيلو بونتيكورفو، وأنا منهمك في إعداد حلقة عنه للتلفزيون، فتمتعت واندهشت، لأسباب، منها أنه فيلم حربي أيقوني، وثق لواحدة من أهم الثورات في القرن العشرين، التي عمّدت انتصارها بمليون شهيد، وثانيهما أن مخرج الفيلم يساري إيطالي متعاطف أصلا مع ثورة الجزائر، فكان مؤثرا ملهما مبنى ومعنى، وثالثها أن الفيلم صور بالأسود والأبيض، وبتقنيات حرص المخرج والمصور "الأسطة" مارسيلوغايتي على استخدام فيلم خاص، ليبرز التضاد بين الأسود والأبيض، وهذا ما حصل.. فعلى الرغم من مرور أكثر 6 عقود، نجده ما زال يحتفظ بواقعيته وحيويته ودفقه العاطفي، كذلك أذهلني أداء الشخصيات التي بلغ عددها 138ممثلا وممثلة جميعهم غير محترفين، خصوصا إبراهيم الحجاج (علي لابونت)، الذي جسد الشخصية حد التماهي، وظلت صورة الشهيد في المخيال الشعبي الجزائري لازمة لما جسده حجاج، وقدم (ممثل محترف) جين مارتن أدى دور الكولونيل المظلي الفرنسي ماثيو، الذي استقدموه لقمع انتفاضة أهالي العاصمة، والطريف أن معظم الحشود هم أيضا من الأهالي، اما من مثل الجانب الفرنسي هم من السواح وأصدقاء الجزائر من الأوروبيين، ليس هذا وحسب، انما امتلك المخرج عبقرية في إدارة هذه المجاميع، اذ قسمهم إلى مجاميع مرقمة، وحركهم حسب أدوارهم، وكل هذا يبدو مفهوما اذا ما عرفنا أن سيناريو فرانكو سوليناس مكتوب بشكل محكم، راسما مسار التتابع السردي بتشويق وسلاسة، ساعد على ذلك مصور نابغة ومونتير لا يبارى، وكان فريق العمل واعيا لأهمية ما يعملون، فتضحيات الجزائر وشعبها الأبي ملهمة، خصوصا أن قادة الجبهة كانوا داعمين لإنتاج الفيلم، لا سيما ابن بلة ووزير دفاعه الشرس هواري بومدين، اللذي قاد انقلابا على رفاق الأمس. الفيلم مقتبس من كتاب بعنوان " ذكريات معركة الجزائر" لياسف سعدي (المهدي جعفر مثل شخصيته الحقيقية) أحد قادة جبهة التحرير الجزائرية الميداني، الذي نجح بإقناع بونتيكورفو بإخراج هذه الملحمة الإنسانية غير المسبوقة، وافق المخرج على ذلك بعد حصل على نسبة معتبرة من اجوره، فغادر مع السيناريست سوليناس إلى الجزائر ومكثوا أشهرا يحاورون أهالي القصبة ويتقصون الحقائق منهم، خصوصا وأنهمما زالوا يلملمون جراحهم وخساراتهم الإنسانية التي لا تعوض.
نجح الفيلم نجاحا كبيرا وأذهل العالم بإسقاطه ورقة التوت التنوير والديمقراطية من استعمار فرنسا البغيض، شارك في مهرجانات وعرض في صالات عربية وعالمية، وخطف أسد مهرجان فينسيا 1966، وترشح للأوسكار، "اغتاظ" الفرنسيون واتهموا الفيلم بتشويه واتهام الجيش الفرنسي بالفاشية، فمنعوا الفيلم في فرنسا حتى العام 1971، وقد تبدو لحظات سريالية، حينما جابت دبابات وزير الدفاع هواري بومدين شوارع العاصمة في إنقلابه على رفاق الأمس القريب، بالتزامن مع تصوير مشاهد مواجهة المتظاهرين لدبابات الفرنسيين، اذ اعتقد الناس أنها جزء من مشاهد الفيلم.