رعد كريم عزيز
في السينما تتجسد كل الحياة الفنية؛ الصوت والصورة والكلام والفلسفة والبساطة والسوقية والموضة والموسيقى والاسواق والنساء والرجال، وكيف يتصرف الأطفال حياتيا وتمثيلا؛ وبذلك فإن السينما تتغلغل في ثنايا الوجدان وتدرب على أنماط معينة بهدوء وتتسرب إلى السلوك الإنساني بهدوء، حتى تتحول إلى قانون طبيعي يتفق عليه الجميع دون الحاجة إلى تصويت، أو إعلان قانون..
خذ مثلا الدراجة الهوائية وعبد الحليم حافظ وشادية، أو موضة الملابس الغربية ووجود البيانو في البيوت الشرقية، أو استعمال الآلة الجارحة (البوكس حديد) في الشجارات الحامية بين الاضداد، وبهذا فإن السينما مدرس مجاني يلقن الجميع بلا اعتراض، حتى ولو كان مشهد القبلة امام العائلة بجميع أعمارهم، ماعدا محاولة بعضهم الانشغال بأفعال ملهية حتى تنقضي القبلة بلا نقاش.
أسوق هذه المقدمة في محاولة لإضفاء طبع الخطورة في ما تقدمه السينما من أمكنة مختارة طوال عمرها، وكأنها أماكن خطرة، لا يمكن أن تصلح للعيش أو للممارسة المهنية الإنسانية, مثل مناطق ما تحت الجسور، على الرغم من انفتاحها الطبيعي وتمتعها بالماء والفضاء المفتوح، وتمتعها بأكثر من زاوية للرؤية بالعين المجردة, ولكنها تحولت إلى مسرح مفتوح لجرائم المافيا والقتل بلا رقيب, ومكان لإخفاء الجريمة بلا بسهولة, إن السينما هنا تدل بسهام اشاراتها إلى الأمكنة، التي يمكن أن تتحول إلى مسرح مفتوح، للذين لا يعرفون الأمكنة، التي يمكن أن يتمتعوا بحرية الاختيار فيها لممارسة القتل والتغييب (لا أدري لماذا تذكرت هنا جريمة سبايكر بامتياز سينمائي).
وكذلك تكرار استخدام ورش التصليح والتصنيع كمسرح للجريمة والخطف وانتزاع الاعترافات، حتما مع مفرغة هواء كبيرة لتدوير الهواء وتقطيع الضوء في خلفية المشهد.
لعل هناك من يبرر استخدام هذه الامكنة بسبب الانتاج وسهولة تنفيذ هذه المشاهد بأقل تمويل ممكن (حتى اصبحت موضع تندر في اغلب مشاهد الكوميديا), ولكننا نعود إلى جذر الاستخدام لهذه الأمكنة – هناك امثلة كثيرة لهذا الموضوع- بسبب التقليد الأعمى لمشاهد مشابهة في السينما العالمية، من الأمكنة الصينية مثلا المزدحمة والمضببة، حتى أصبحت أماكن طبيعية في السينما العربية والمصرية تحديدا, ومن ثمة تحولت إلى أمكنة جاهزة استخدمتها الاعمال السينمائية العراقية, والتلفزيونية بشكل أكبر لسهولة تنفيذها وتطبعت عين المشاهد على مسلمة لا تحتاج إلى نقاش بقدر ما تلاحق تسلسل الحكاية حتى الوصول إلى النهاية المفرحة غالبا، رغم أنف الواقع متوجة بحضور الشرطة والقاء القبض على المجرم.
اغلب أسباب هذا التقليد، الذي يحمل درسا قاسيا في البلادة وعدم الاهتمام بالنتائج الاخلاقية، لتجميد الأماكن في خانة واحدة لا تتغير، تعود إلى غياب الثقافة السينمائية عند المتاجرين بهذا الفن النبيل، واتباع نظرية – الجمهور عايز كده- كما يقول أخواننا المصريون اصحاب الباع الطويل في السينما العربية.
إن الدرس الاخلاقي والثقافي والسياسي، الذي تقدمه السينما لا يمكن إغفاله بحجة أن التمويل قليل، أو اشباع حاجة الترفيه على حساب الثقافة الرصينة ادراكا منا لأهمية التأثير المباشر للسينما- الصورة – في الواقع الاجتماعي المعاش، وهي بالتأكيد تملك التأثير الاكبر، لا سيما بعد انتشارها في اجهزة بحجم الكف، يمكن مشاهدتها في سيارات النقل العام بكل سهولة، لذا نقول في نهاية الكلام؛ أن الأنهر والجسور وورش التصليح، أماكن بريئة تجنى عليها الانتاج السينمائي مع الإصرار والترصد..