الشعر والصلاة

ثقافة 2023/07/18
...

  عبود الجابري
ترتكز مناقشة العلاقة بين الصلاة والشعر على الاتصال العميق بين الإلهام الشعري والصلاة والحاجة النفسيَّة التي تفضي بالمرء إلى الصلاة أو كتابة الشعر، ولم يخل البحث في هذا الموضوع من محاولات صيد تسعى إلى تعكير الهوية العربيّة للوطن الفلسطيني، حيث عقد في (إسرائيل) في مدينة القدس تحديداً عام 2000 مؤتمر تناولت بحوثه العلاقة بين الشعر والصلاة على ضوء مخطوطات البحر الميت؛ وتطرَّقت تلك البحوث إلى مراحل تطور القداس اليهودي من الناحيتين الأدبيّة والدينيّة، من خلال تفحص النصوص التي ترتبط بطقوس العبادة في مراحل التعبّد لدى اليهود، وكان لتلك البحوث مرور واف على تفاصيل تشمل السحر، التصوف، الرثاء، وصولا إلى نصوص الشكر والثناء التي تشكل المتن الرئيس للصلوات، ولم تكن تلك البحوث لتخلو من سواد الطوية الذي يقصد منه إثبات (العمق التاريخي والجغرافي) للدولة اليهودية.
ترتبط حياة الإنسان المعاصر ارتباطا وثيقا بالقلق اللاهوتي المعاصر، بين إيمان مطلق وإلحاد متذبذب تتوسطّهما الحاجة الروحانيَّة للفرد في العثور على ملجأ يأوي إليه أو مخلِّص يلوذ  به، ذلك ما يجعل للنص الشعري سلطة أن يكون شبيها بنفثة المصدور عند الاستشهاد به في لحظات الضيق والاختناق التي تحاصر هذا الفرد بشكل دائم، وقد حظي هذا الأمر بالتحري العميق في ديانات أخرى غير الإسلام بمباركة شفيفة من حاخامات وقساوسة، وكان للبعض منهم كتب بالغة القيمة في هذا الشأن، مثلما تناوله بعض الشعراء في ألباب نصوصهم، فقد كتب (أودن)  ذات مرة قائلا: (الصلاة هي أن تولي اهتماماً لشيء أو شخص آخر غير الشخص الذي يسكنُ منْ توليه الاهتمام، بحيث تجعله يركز انتباهه على المشهد - القصيدة -، وهي قضية هندسيَّة، فالإنسان هو الصنم أو الإله الحقيقي الذي نَسِيَ تماما غروره ورغباته الخاصة وقال: إنّه يصلي)، وعلى الرغم من أنَّ الشعر خضع ويخضع إلى محاولات مستمرة لتطويره وتحديث أساليبه والمراوغة الواعية للإفلات من التعريف التقليدي له، إلّا أنَّ الصلاة بقيت واقفة عند تلك التعاريف التي تَسِمُها على أنَّها (التعبُّدُ للهِ بأقوالٍ وأفعالٍ مخصوصةٍ، مُفتَتَحةٍ بالتَّكبيرِ، مُختَتَمةٍ بالتَّسليمِ) أو أنّها الدعاء الخالص للرب، ورغم ارتباط أدب الدعاء في التاريخ الإسلامي بالحياة اليوميَّة للمسلمين وما تلاه من جرأة المتصوّفة الذين أخذوا به من عزلته صوب التغزّل بالذات الإلهيَّة وتجسيدها في بعض نصوصهم، والوبال الذي جرَّته عليهم تلك الشجاعة إلّا أنَّ أحداً لم يقدم على بحث العلاقة بين الشعر والصلاة من منظور يتناول تاريخ الصلاة في الإسلام وعلاقة الشعر بها ولا أقصد به الشعر الموزون المقفى وإنما تلك النصوص التي لا تزال متداولة في الأدعية والصلوات اليومية، والتي يرددها اللاجئون إلى الله من دون أن يعرفوا كاتبها أو راويها، ورغم الاعتراف بتباين الأحكام بين الصلاة والشعر إلّا أنَّ الصلة بينهما تبقى قائمة وهي البديهيّة والتأمّل والتهيؤ الطقسي الملزم وقد يسعفني في  هذا المقام تعريف بورخيس للشعر: (أظنُّ أنَّ الشعر يختلف عن النثر لا باختلاف صيغتهما اللفظيّة كما يقول «الكثيرون»، وإنما يختلفان في حقيقة أنَّ كليهما يُقرأ بطريقة مختلفة، فالقطعة التي تقرأ وهي موجهة إلى العقل هي نثر، والقطعة التي تُقرأ موجهة إلى المخيلة، ينبغي أن تكون شعرًا)، ويبدو من خلال هذا التعريف أن ثمّة حاجة ملحّة للتوسع في بحث هذه الثيمة بشكل مفصل ودونما موانع تحول من دون ذلك لتأصيل موارد النص الأدبي الذي يكمن في النصوص الدينيَّة.
يرى الفيلسوف الإنجليزي روجر سكروتون بأنّنا، كبشرٍ، «نربط غريزيًا المقدَّسَ بالمُتعالي، ونرى الأماكن المقدّسة والأزمنة والطقوس كنوافذ على عالمٍ آخر، ونحاول شرحها من خلال العقيدة اللاهوتيّة، ولكنّها غالباً ما تراوغ في النهاية محاولاتنا
لوصفها».
وهذا هو المكان الذي يأتي منه الشعر، المتصوّفة مرتبطون بالكلمات، تمامًا مثل أيّ شخص آخر، وعادةً ما تداهم بعض نصوصهم الغامضة قواعد الشعر القياسيّة، إلى حدٍّ كبير بسبب قدرتها على إعمال المجاز في التفكير، ودفع اللغة إلى ما هو أبعد من الصياغات المبتذلة، ونقل شحنةٍ عاطفيّة من خلال الموسيقى والإيقاع، إذْ ليسَ من النادر أن يكون المتصوّفة أنفسهم شعراء.
وعن القدّيس يوحنّا الصليب، كتب جاك ماريتين أنّه «في كثير من الأحيان، تومُض الموهبة في النفوس القدّيسة التي اختبرت روحانيّة الأشياء من خلال طقوسٍ معيّنة، موهبةٌ رشيقة تمكّن تلك النفوس من الحديث عن تلك الطقوس الروحانيّة بطريقة جميلة ومقنعة ومشرقة، وأنّ الدقّة اللّغويّة للشعر والخواص التي تجعله قابلاً للحفظ، وتواتر نقله، هي محتويات «المزامير» و»الهايكو» و «البهاغافاد غيتا باللغة السنسكريتية»، وهو الكتاب الهندي المقدس في الديانة الهندوسيّة، كما يكتب سكروتون في مكان آخر أنّ المصلّي «يتحرّر للحظةٍ من العالم المادي، ويتدفّق منساباً إلى» شراكةٍ صوفيّةٍ مع الرعايا الآخرين الذين يتعبّدون بجانبه»، ويبدو أنّ الصلاة هي سبيل المؤمن الأساسي لمثل هذه الشراكة الصوفية، ونجد أنّ العديد من قصائد - هوبكنز، وهربرت، وجون دن، وإليوت، وآخرين - إمّا أن تتّخذ شكل صلوات أو يكون لها هذا التأثير الشبيه بالصلاة.
وقد كتب الشاعر روبرت كوردينج رأياً فحواه أنَّ «كلّاً من الشعر والصلاة يقرّان بحدود الذات، وذلك يعني أنَّ أصولهما متجذرة في اجتراح الابتهال – وهو مخاطبة ما لا يمكن رؤيته أو فهمه منطقيًا، والذي لا يمكن بشكل أو بآخر توظيفُه في اللغة».
 كما يقول ويلبر في قصيدته «إلى دودلي»:
 «كلّ ما نقوم به يلامس المحيط، ومع ذلك فإنّنا نمكث على ما نعرف من الشواطئ».
وفي ما يتعلّق بالصلاة وطبيعة الشعر الذي يعجبني، فإنّي أقيم في هذا الخط الساحلي اللّا مفصلي، كلاهما يجسّد شوقًا يفضي نحو ما هو عصيٌّ على التخيّل، ويرفضان الصمت عندما مواجهة هذا اللغز، على الرغم من أنهما يعترفان بأن جميع الكلمات ينتهي بها الأمر إلى التلاشي عندما تصل إلى مرحلة الصمت.
بينما يقترح «ديريك روتي» سبيلاً مختلفاً لتأصيل الصلاة، من خلال الشعر، ويقول إنَّ ما يقترحه ليس بجديد، فقد تم اختباره ووجد فعاليته عبر قرون عديدة، حتى قبل ظهور المسيحيَّة.
قراءة الشعر والتأمّل فيه، يمكنها أن تجعل المرء على تواصل كامل مع الله الذي يرغب بشدّة في التواصل معنا وإظهار جماله لنا.
من خلال الشعر يمكننا أن نغوص إلى الأعماق، ونصعد إلى المرتفعات التي يهديها الله لنا.
فالعلاقة بين الشعر والصلاة، تعود إلى ترانيم الكورال في المسرح اليوناني، وأصبح الشعر في التقاليد العبرية نوعاً من الصلاة، من خلال المزامير، وهي قصائد عبرية قديمة تنسب إلى الملك داود، فأصبحت كتاب صلاة في
اليهودية.
وتحتوي هذه المزامير على سلسلة من المشاعر البشريّة: من الحب إلى اليأس؛ من الفرح الى الأسف من صرخات الاستغاثة إلى صراخ الرحمة بعد الخطيئة الجسيمة، وهذه جميعها عوامل مشتركة بين الصلاة والشعر فيما يتعلّق بالمقاييس الروحيّة للإنسان، لكنّها تتصف من دون شكّ بمعايير الشعريّة من خلال استخدام اللغة والمجازات وبقية المحسنات البديعيّة في الكتابة الشعريّة.