وارد بدر السالم
(الجنس. السياسة. الدين) ثلاثة ممنوعات ومحرَّمات منع تداولها في الكتابة الأدبيّة العربيّة، أو هكذا منذ بداياتنا في القراءة والكتابة، أوحي إلينا بأن هذا خطر عظيم يتوجب أن لا نقترب منه. فتلك الثلاثيّة (المخيفة) تجهض فكرة الموهبة، وتحطم الأفكار الإيجابيّة التي يمكن لها أن تصلح المجتمع. ليتم عزلنا مبكراً من هذه البوابات، من دون جدل نافع أو معرفة ضمنيّة لهذه الممنوعات. تداولنا - سراً- بعضاً من تلك الممنوعات المفترضة، بعيداً عن عين الرقيب والرقابة ووشاة الثقافة. وهي كتب «محظورة» لأسباب متداخلة لم نكن قادرين على فهمها على الوجه الصحيح آنذاك.
ومن الطبيعي أن يتداخل الاجتماعي- الديني بالأدبي، والسياسي بالديني، فينتصر الاجتماعي المتلبّس بالدين على ما هو أدبي. ويتحقق شرط الابتعاد عن هكذا موضوعات على مر أجيال غير قليلة. وقطعاً فإنّ المسوّغات كانت متشابهة، والتلقين المتقاطع غير موضوعي، سوى أن المنع التاريخي قد يلامس الواقع السياسي والديني والجسدي المُحرّم، بما يجعل من ذلك المثلث عبارة عن محرّمات يُحظر التقرّب منها وملامسة وجودها الفعلي في الكتابة والقراءة. لذلك فإنّ أجيالاً أدبيّة عربيّة متناوبة قبلت بهذه الشروط التعجيزيّة، وألِفتْ فرْضها، وتعاملت معها على أنها حقيقة اجتماعيّة ودينيّة وسياسيّة، كما أريد لها أن تجمع المثلث الممنوع بطريقة قسريّة.
بقيت وزارات الثقافة والإعلام حتى اليوم في الكثير من الدول العربية، مع دوائرها الرقابيّة نشطة للحفاظ على ذلك الإرث الشبحي الذي يهدد الحياة والسلطات. وعادةً فإنّ الرقباء شرسون في تتبع الأثر الجنسي والديني المتطرّف والسياسي المضاد، باعتبار أن الجنسي يتقاطع مع الديني، والسياسي يتمرّد على الديني، ويُعلي من شأن الجنسي بوصفه حرية شخصية، والديني صارم بتشريعاته وثوابته، فلا يعطي المجال للسياسي (الكافر) ولا الجنسي (المُخرّب) وفي هذه الخبطة الثلاثية سيئة الصيت، توترت العلاقة ما بين الأدباء وبين مخططي المنع المتوارث منذ زمن طويل. وعزف الأغلبية عن الخوض فيها، إلا ما ندر من الكتابات التي (شذّت) عن هذه القاعدة ذات الأركان المدبّبة. لكن واحدة من الاحتيالات الفضوليّة التي تمَّ اللجوء إليها، هي قراءة الكتابات الجنسيّة عند العرب، لا سيما في العصر العباسي الذي خرج قليلاً أو كثيراً عن هذا المثلث المصطنع. فأعيدت؛ بعيداً عن جواسيس الرقابة؛ طبعات لكتب معروفة تناولت الحياة الجنسيّة قبل مئات السنوات، وهو ما ينبّه الى أن العرب سبقوا الأوربيين في تناول الثقافة الجنسيّة، فقد اهتموا في هذا الجانب الفطري الإنساني، وكتبوا فيه بوضوح (عاري) من دون الالتفات الى الرقابة وسواها من معطّلات التآليف التي تؤخر ولا تقدم في النظر الى موضوعة الجنس، كونها مغلقة، تقتضي العلميّة المنهجيّة في الدخول الى تفاصيلها وتضاعيفها الكثيرة.
في الأمثلة السريعة هناك كتابات الجنس العربية الشهيرة: الجنس عند العرب - نواضر الأيك- نزهة العمر في التفضيل بين البيض والسمر- رشف الزلال من السحر الحلال - النواكح - الروض العاطر في نزهة الخاطر- تحفة العروس- رجوع الشيخ إلى صباه – فضلا عن فصول كثيرة حفلت بها ألف ليلة وليلة يتخاطر فيها الجنس العباسي صراحةً ووضوحاً.. وغيرها من عشرات الكتب العربية التي تؤسس للثقافة الجنسيّة، وتفتح مغاليقها العلمية والجنسانية، لكن لا نعدم القول أن بعضها ذو طابع تجاري، بتعبيرنا المعاصر، لكن الأسبقية العلمية تبيح لمثل تلك الكتب الرواج الموضعي للقارئ العربي القديم.
السياسي أهون بكثير من صرامة البوح الجنسي، فالأيديولوجيات السياسية العربية معروفة، تتصارع بين الاشتراكي والقومي والديني المحشور بينهما، وقد تعرف المواطن العربي بالشعارات والرايات المعقودة عليها، فكان ينتمي الى أحدها طوعاً أو كرهاً. وهذه الفقرة ليست شائكة تحليليّاً، لكن النتائج الحاصلة اليوم هي غير الشعارات والرايات الملوّنة التي كانت تتخاطر في الشوارع وعلى أعمدة الكهرباء.
يبقى الديني كثالث الثلاثة المحرّم تناوله سرديّاً، وربما نعرف المدى الذي يصل المنع اليه سابقاً، وهو أمرٌ كان مبالغاً فيه الى حد كبير، فالديني السماوي القار والوضعي منه، عُرضة للتحليل والتأويل والاستنتاج اللغوي والخيالي والأسطوري، وهذا من مزايا الجدل الذي يحرّك المعنى الديني لا أن يُغلق عليه الباب. وسنرى في العصر الإلكتروني؛ بوصفه الثورة الثالثة بعد ثورتي الزراعة والصناعة الأوربيتين، قد انفتحت فيه الحياة على قرية صغيرة اسمها العالم، بكل ما فيها من محظورات وممنوعات، وبضمنها الثالوث المشار اليه. وتوسّعت القراءة على مدياتها المعرفية والثقافية والعلمية، فاتضح أنّ الممنوعات الثلاثة ما هي إلا أوهام تلبستها الأجيال الماضية واستسلمت لها. فالعصر الإلكتروني كشف الأغطية المخادعة، وأباح لكل شيء أن يخرج للنور والعلن، فلا ممنوعات فيه ومحظورات. بل المعرفة الشاملة التي تضيء للإنسان ما عتم عليه في عقود سابقة، بضمنها الجنسي المغيّب والديني المغلق والسياسي الكاذب.
الآن انشغلت السرديات والبحوث والدراسات الأكاديمية وغيرها بتناول ما كان ممنوعاً. وظهر الأمر على غير ما كان عليه. فالحياة التي قولبوها بالسياسة والجنس والدين، هي أوسع مما تم التثقيف عليه في مراحل سابقة كانت طويلة للأسف. ولا بدَّ مع التطور في حضارة الإلكترونيات أن نكتشف المزيد من التغييب الثقافي الذي مرَّ على حياة أجيال كثيرة.