حيدر علي الأسدي
بدأت الفنون والآداب كأدوات تعبير مهمة في تاريخ البشرية، ولم تكن في تلك البدايات تتمتع بطابع آخر غير ذلك، ناهيك عن الطقسيّة وعلاقة هذه الآداب والفنون بموروث الأمم وأساطيرها وثقافاتها الحضارية والدينيّة والإنسانيّة، في كل هذا المعترك لم يكن للجانب التجاري المادي البحت حضور في إدارة العملية الفنية والأدبية وأساليب انتاجها. وربما هو الأمر الذي جعل العديد من الأعمال خالدة في ذلك الحين.
لأنّها كانت تنبع من صميم إنساني وحاجة إنسانيّة جوهريّة للتعبير عن هذا الهم الإنساني، في خضم التطورات الحياتية العصريّة وطرق انتاج الفن مع التقدم الحاصل ودخول الوسائل والتقنيات الحديثة في الإدارة الفنية والإنتاج الادبي والفنون، فقد أصبح العامل التجاري من المقومات الرئيسة في انتاج القيم والأفكار والابداعات المختلفة، سواء على مستوى (تذاكر/ دخول المعارض والسينما والمسارح) أو على مستوى إدارة انتاج (المسرحيات/ الأفلام) أو اقتصاديات الاعلام والنشر والطباعة التي تتصل بإدارة المفصل الاقتصادي للصحف والمجلات ودور النشر (مطبوعات/ كتب ومؤلفات ونصوص أدبية متنوعة) وصولاً إلى سيادة ما هو تجاري على كل الأعمال الدرامية والفنية وتتداخل معها مفاهيم القصائد التعبوية أو لنقل بصورة عامة الكتابة التعبوية (أجور المهرجانات/ أجور المثقف لحضور ندوة او مؤتمر أو حلقة تلفزيونية) وغيرها من الابعاد الربحيّة التي باتت تسيطر على المفصل الادبي والفني برمته. وهذا ليس عيباً، ولكن العيب أن يتصدر الامر مركزية الغايات والاهداف ويتراجع المعنى والقيمة الفكرية كهامش في هذه العملية، وهو ما نراه للأسف في السنوات الأخيرة، مثلا المسرح التجاري يتقدم على المسرح الجاد لأنَّ (شباك تذاكر المسرح التجاري اكثر ربحيَّة) والسينما التي تتسم بطابها (الكوميدي والتهريجي وأحياناً المغلف بالمشاهد الإباحيَّة) تنال (مشاهدات الجمهور) والأرباح أكثر من تلك الأفلام التي يسيطر عليها الطابع الفكري وقيمة المعنى، وكذلك تفشي ظاهر المطبوعات التي تتميز بالضحالة والسذاجة (كتبت على يدي أقلام نسويّة بهالة تسويقيّة دعائيّة عبر مواقع التواصل) ولكن تباع أكثر من تلك الكتب القيمة بمجالات الثقافة والاجتماع والفلسفة والفكر. فلا تستغرب مثلاً أن وجدت نصوصاً نثريّة أو خواطر لكاتبة شابة تحقق مبيعات أكثر من كاتب يمتلك وعيا ونضجا ثقافيا بكتاباته، الفارق الوحيد هو الجانب التسويقي لتلك الكاتبة الشابة وأعني هنا (ثقافة الشكل والتمظهر) التي ميزت الطابع التسويقي التجاري على الجانب الجوهري في كل مناحي الحياة ومنها الثقافية، ناهيك عن دور النشر التي بدأت تفكر بطباعة الكتاب الذي (يحقق مبيعات) وليس الكتاب الذي (يحقق تغييرا ونقلة نوعيّة بتفكير الإنسان)، اليوم نشاهد كتب الفكر والفلسفة والاجتماع والثقافة مركونة ويهرع الشباب لقراءة الروايات السردية والنصوص العابرة والخواطر التي تكتب باستسهال عبر مواقع التواصل الاجتماعي. إن ثقافة الاستهلاك لم تصب حياتنا الاقتصادية وحسب، بل حتى حياتنا الثقافية التي بتنا نستهلك ما هو كمالي فيها ونترك ما هو ضروري منها، وهو الامر الذي جعل هذا الطابع التجاري يتسيّد المشهد بتفاصيله كافة.
اليوم بات الفنان والأديب يبحث عن (العمل المربح بأجوره المرتفعة) وليس (العمل المؤثر على الجمهور من الجانب الإيجابي او معالجة القضايا الجدليّة الشائكة)، الشاعر يبحث عن منصات تدفع أكثر، والأديب يرتزق من كتاباته عبر التسويق لشخصيات متنفذة تمتلك الوجاهة والمال، والشاعر مرتزق يركب كلماته على أي من الشخصيات التي تدفع أكثر، أو يبحث عن مهرجانات واحتفالات تدفع له المال من أجل قصيدة مؤدلجة لا يقولها عن فكر وقناعات تامة. إنّ سيادة التجاري بكل تعاملاتنا الثقافية جعلها سطحيّة غير مؤثرة لا يمكن للقيمة الفكريّة ان تعلو على السطحية والسذاجة التي ينتجها المفصل الفني والثقافي في ظل هدف أسمى يضعه أمامه هو (المال) في ظل كل هذه الظروف الحالكة التي يعيشها (المثقف والفنان على حد سواء) مما أفضى إلى هذه النتائج بخاصة في ظل الأزمات المتوالية التي تفتك بالمجتمعات والبشريّة وتعزل الفنان في وسط ظروف معيشيّة ربما تضطره أحياناً لكي يعود الى نغمة سيادة ما هو تجاري على منظومة انتاج الفكر والثقافة والعمل الأدبي.
إنَّ الفنان والمثقف العربي والعراقي عانى من هذا الأمر كونه يعيش بظروف إنتاجية صعبة، لا توفر له الدولة التفرّغ من أجل الكتابة، ولا تمنحه الدولة او المؤسسات أجورا كريمة لقاء كتاباته (المستقلة الحرة) النابعة من قناعاته الشخصيّة في التعبير عن همومه الذاتيّة وهموم مجتمعه المفصليّة. اليوم الجانب التجاري أصبح يهيمن على خطابات انتاج القيم والأفكار فتختلط الوصوليّة مع أهداف الثقافة وتتشابك الرؤى المؤدلجة مع هموم الناس ومصالحهم العامة، ومن هنا تشكلت الجدليّة عن عدم قدرة المثقف على التغيير واحداث الأثر في المجتمع، لأنّه يعيش أزمات داخلية ضمن نسق ثقافته، وهو يكترث لمصالحه الشخصية أكثر من مصالح الناس إلا ما ندر، وهو ما انتج طابع البحث عن الجوانب التجاريّة في أغلب الانتاجات التي تقدم في السنوات الأخيرة.