محمود خوشناو
خُلق الانسان حراً، ولكن قيدته اختلافات الرأي بين من يعتقد، ويجزم بأحقيته وصواب رأيه، وبين من يحاول إثبات صواب رأيه بشتى الوسائل، تارة ينجح وتارة أخرى نصيبه الإخفاق.
لا يخفى بأن المجتمات تعددت في تبنيها لوجهات النظر، والآراء حسب اعتقادها وعرقها والبيئة الاجتماعية والسياسية التي تحكمها، أغلبيتها تعاني من مزاحمة الرأي الآخر بطريقة غير مشروعة، باستخدام ادوات العنف أو الاستفادة من قوة الدولة والعشيرة، أو تخويفها بمواقف تأريخية قد تضررت بها، خاصة في الدول والمجتمعات غير المنضبطة بمعناها غير التقليدي، هنا لا بد أن نتوقف ونُعرِّف من هي الدول والمجتمعات غير المنضبطة من زاوية حرية التعبير؟
بعد البحث والمقارنة ودراسة مبسطة لتداعيات النتائج المترتبة على بعض الأحداث المقترنة بحرية التعبير، تبين لنا بأن جميع الدول غير منضبطة في تعريف حرية التعبير، واحترام الرأي الآخر على المستوى الدولي، وكل ما تقوم به عملياً تتوافق وتتناغم مع مجتمعاتها حصراً وتتقاطع مع المجتمعات الاخرى، إذاً لا يجوز تعريف هذه الدول بأنها نجحت بتعريف حرية التعبير، وأنها الاصل في صياغة قوانين لدول اخرى ايضاً، بمعنى آخر لا يجوز تصدير وفرض توجهات دول على دول اخرى في رسم ملامح وصياغة قانون يخص حرية التعبير، لأنها في الأصل لم تنجح في إدراج وجهات نظر المجتمعات الاخرى المختلف معها عقائدياً واجتماعياً وحتى
سياسياً.
المجتمعات غير المنضبطة، اختلف عليها الكثير في تعريفها وتصنيفها، وأنا أعتقد بأن العجز عن تعريفها بحد ذاته منجز وخطوة مشجعة لتعريف حرية التعبير بصورة متعددة، وفق طبيعة ونفسية المجتمعات، مع الأخذ بنظر الاعتبار بعض الثوابت المشتركة.
لأن لكلِّ مجتمع تقاليد وأعرافا وأديانا تُصاغ فيها القوانين لتنظيم المجتمع بالاعتماد عليها، وعدم تجاوز الخطوط العامة فيها، مع ذلك نرى أصواتا وتجمعات منظماتية وسياسية، تنتقد ذلك وتريد إلزام الدول الاخرى في تبني التوجهات نفسها والاعتكاز عليها، وتعميمها على الجميع وهذا لن يتحقق عملياً، وإن تحقق ورقياً ستواجه انتقادات، وربما تُربك الاستقرار وتتجه نحو الفوضى وازدياد مزاحمة الرأي الآخر، ويتولد عن ذلك عدم الاستقرار المجتمعي، إن لم يتخطَ ذلك ويهدد النظام السياسي في ما بعد.
الاجندة السياسية والاستخبارية الخارجية اشتبكت وانخرطت بطريقة هادئة وناعمة مع توجهات وثوابت بعض المجتمعات، ونشأ عن ذلك إرباك مجتمعي ومزاحمة الرأي الآخر بطريقة غير متوقعة، وضربت الثقة بين أفرادها وبين فواعل المنظومة السياسية، وبين فئات المجتمع والمنظومة السياسية ايضاً، وربما يعتقد المتأثرون بالجهد المعادي بأنهم سيصنعون نصراً طويل الامد في شق النسيج الاجتماعي، إضافةً للنسيج السياسي، اما الذين لم يَعُوا حتى الآن خطورة الانخراط السلبي الناعم، يعتقدون بأن فقدان الثقة بين الفواعل اعلاه سيحقق نقلة نوعية في الاستقرار وبناء الدولة والرفاهية، والحقيقة غير ذلك تماماً ولو على المدى البعيد.
العراق أحد هذه المجتمعات المتأثرة بالانخراط السلبي الناعم، ولم يبقَ لحرية التعبير تعبير سوى اجتهادات متباينة ومتقاطعة لدرجة الاصطدام الكلامي وحتى المسلح في بعض الاحيان.
هناك فريق نخبوي متأثر وملتزم بالنصوص القديمة، التي كتبتها أو استنتجتها مدارس فكرية في دول غير منضبطة بوجهة النظر الاجتماعية العراقية، ويستقتلون عليها وكأنها نصوص سماوية.
وفريق نخبوي آخر يبحث عن ملاءمة نصوص تضبط المجتمع وتعرف حرية التعبير، بطريقة تسهل تنفيذها بأقل الخسائر مع مراعاة الثوابت العامة المشتركة مع المجتمعات الاخرى، أو حتى بما يسمى الميثاق الدولي المختلف عليه.
يبدو أن الفريق الأول يعتقد بأنه تفكيره سليم، لأنه اتَّبع منهج مجتمع ودولة اخرى، وفي بعض الاحيان يفرض نفسه، مستقوياً بمنظمات أسستها دوائر استخبارية تعتقد بأن السيطرة على المجتمعات الأخرى تكون عبر هذه النافذة لضمان امنها القومي، طبعاً بخلق الفوضى عبر تسييس حرية التعبير وتحوير مسارها المشروع.
والفريق الثاني يواجه الأول متذرعاً ومتحججاً أو متشدداً في بعض الاحيان لإنقاذ ما يمكن إنقاذه.
أنا لا أميل لأي فريق بصورة مطلقة، لكنني أعتقد بأن الفريق الثاني اكثر حرصاً على تبني مفاهيم، تتناغم مع مجتمعاتها ولا تولد إرباكاً، لكن الذي اتخوف منه ويتخوف منها الآخرون، استغلال ذلك مذهبياً وعرقياً وسياسياً بإدراج اجندة معينة وإعدام حرية التعبير عن الرأي وتقييدها بولادة مشوهة لأي قانون.
هذا التخوف لم يأتِ من فراغ، بل حصلت محاولات بهذا المسار وفشلت، لأن الفريق الاول تصدى، والفريق الثاني ذي حسن النوايا ايضاً تصدى معاكساً، وفي النهاية لم يولد تعريف يضمن حرية التعبير، وينهي المزاحمة السلبية للرأي، وانعكس ذلك على المجتمع، وبدأت الفوضى تنخر جسد مشروعية التعبير وتآكل
غشاءها.
الغاية من المرور بواقع حرية التعبير كان لمواجهة سياسة (التشهير والتسقيط والتحقير) المتبنىٰ من قبل بعض الافراد والقوى السياسية والاجتماعية، من اجل محاولة انتزاع أو الوصول إلى السلطة بصناعة الرأي العام لصالحهم، في ظل غياب قانون عصري ينظم حرية التعبير ويتناغم مع التطورات التقنية، محدداً بذلك صلاحيات القضاء وهيئاتها، مانعاً الإرباك والفوضى، رغم وجود قوانين قديمة يُعمل بها، لكنها لم تحد من هذه الظاهرة الخطيرة المرتبطة بحرية التعبير عن الرأي.
بقي نقول من المسؤول عن ذلك، وكيف نحقق نجاحاً في إنهاء هذه الفوضى، والحد من تداعياتها الخطيرة على المجتمع، يبدو أن جميع المؤسسات وفئات المجتمع مسؤولة عن ذلك مسؤولية مباشرة أو غير مباشرة، لكن (رئاسة الجمهورية ومجلس النواب العراقي ومجلس الوزراء ومجلس القضاء الاعلى)، تقع عليهم المسؤولية الدستورية والقانونية المباشرة وغير قابلة للشفاعة والتأويل.
ختاماً يسعدني أن ارىٰ في المستقبل القريب ولادة قوانين تنظم، ولا تقيد حرية التعبير عن الرأي، وتطبق بطريقة سليمة، وتنقذ ما يمكن إنقاذه من تقاليد ميَّزتنا عن الآخرين.