أحمد الشطري
كتاب (في البيت وما حوله) ، الذي أثثه الشاعر عبود الجابري بصوره، التي تحمل الكثير من الجماليات، وتنفتح بدلالاتها على الكثير من المدلولات.
في أول دخولنا لبيت الجابري، نجد توصيفا قد يبدو مباشرا "بيتي ليس بعيدا عن يد الله"، ولكنه ما يلبث أن يملأه بصور رمزية، تنطلق من نافذة الغموض نحو فضاء الدلالات الواسع"، قد يكون قطة توغل في المواء فيجلدها الجوع عند باب مغلق"، ومن خلال ترسيم العلاقات التي تربط بين البيت (القطة)، والمواء الذي يمثل أصوات ساكنيه المستغيثة من فرط الجوع، والتي تصطدم بانغلاق الباب الذي تأتي منه الإغاثة (باب الله الذي يمثل الرزق)، وهو ما يشكل علاقة متناقضة بين القرب من (يد الله) وانغلاق (باب) الله. ومن ثم نلمح من خلال تنظيم الخيوط المتشابكة صورة احتجاجية مغلفة بالكثير من الألم
والغضب.
وهكذا يمضي الجابري في احتجاجاته على واقعه، منتقلا من خطابه الكنائي إلى الخطاب العام، الذي لا يحدد جهة خاصة" تعلمت إغماض عينيَّ عند سطوع الضوء، وعند مروري بمحاذاة المقبرة، خشية أن أكون شاهد زور على ندم الشهداء وأحزان البخور العدني".
وفي هذه الصورة ثمة علاقة تضادية رمزية بين إغماض العين وسطوع الضوء، ويكمن ذلك في استثمار العلاقة الفيزيائية، إذ كلما كان الضوء ساطعا كلما تسبب في إيذاء العين، ومن ثم يؤدي إلى تشوش الرؤية، ومن ثم ستكون الشهادة غير مطابقة للحقيقة، وهذا ما يدفعه إلى إغماض عينيه؛ حتى (لا يكون شاهد زور)، والصورة الأخرى التي تربط أيضا بين شهادة الزور وندم الشهداء، والذي تؤكده (أحزان البخور العدني)، تلك التي يفترض أن تقابل الشهداء بالفرح، ولكن حزنها هنا يشي بأن تضحيتهم لم تكن ذات جدوى كما هو مفترض.
ثم ينتقل بانفعالاته الاحتجاجية إلى الأصدقاء، الذين لم يكونوا صادقين في علاقتهم ومشاعرهم" أسخر من الشوق الحارق؛ لأنّ الذين أحبّهم لم يعودوا في متناول القلب، أطلقتُ النار على صورهم المعلّقة في زوايا البيت، فلم ينطقوا، وحين سقيتُ شجيرة الورد، سكبتُ عليهم كفايتهم من الماء، فما نمَتْ لهم براعم، ولمْ يخضرّ عرقٌ واحد في الصّور" وهكذا تتوالى الصور المعبرة عن السيل المتدفق لمشاعر الاحتجاج منتقلة مما هو سماوي إلى ما هو أرضي، رغم أن ما يبدو سماويا هو في حقيقته أرضي، بيد أن الشاعر أراد من هذه الكناية منحها صفة العمومية من جهة واللا مباشرة من ناحية أخرى.
وفي الصورة التالية قد تكون صورة الاحتجاج، تحمل خطابا مباشرا، وهو ما يؤكد ما أشرنا إليه من استخدام الخطاب الموجه إلى ما هو سماوي ككناية وليس حقيقة" ولمْ يعدْ لأيدينا مهنةٌ في هذه الحياة، بعد تسريحِ ملايين الأيدي من العمل في البساتين، وانشغالِ النّاجين من الحروب في البحث عن أيديهم المبتورة، لم تعدْ أيدينا تحلمُ بالعناق، ولم يتسنّ لنا أنْ نلوّح لأحدٍ من بعيد، فنحن هنا غرباء يحاكونَ الأشباح، ما إن نصافح أحداً حتى يتمثّل لنا غيمةً نائمةً أو سراب".
بهذه الصور المليئة بالألم والحزن واليأس والغضب يكتب الشاعر عبود الجابري قصائده التي وصفناها بأنها نزف، ولم يكن وصفنا هذا اجتراحا خارجا عن النص، بل هو ما يصرح به الشاعر في هذه الصورة من نص آخر حمل عنوان (تفاصيل مهمة يقول فيه:
" تساورني رغبة أن تجرحني ورقةٌ؛ كي أنزف دمي بين السّطور، ليقرأني الذباب، والبكتيريا الهوائية، دمي الّذي سيشربهُ التراب، يصيرُ حروفاً يابسة، وجسدي سيغدو أصفر ثميناً ونادراً كمخطوطٍ قديم".
وهو أيضا ما تؤكده المتعالية النصية الداخلية والتي تقول:" ليس في كتاب الجروح صورة واحدة لخنجر نادم" ومن خلال هذه المتعالية نستشف سورة الغضب، الذي يعتمل في قلب الشاعر، من خلال وصفه لنصوصه أو حياته بكتاب الجروح، الذي لم يحتو على صورة ندم لمن جرحه، وهذا النفي ينطوي على فعل تبريري للسورة الغضب المستمر.
لقد حفلت هذه المجموعة الشعرية بالعديد من الصور المبهرة في تركيبها والمكتنزة بجمالها التشكيلي والثرية بدلالاتها الرمزية. وقد تضمنت أربعة وعشرين نصا وصدرت عن دار الدراويش للترجمة والنشر.