دقيق أحمر لرغيف ساخن

ثقافة 2023/07/18
...

  كريم رشيد

كان بإمكان الباحث أن يتكئ على منجز شعراء معروفين، ويدعم دراسته بوافر من المصادر والبحوث، لكنه اختار الذهاب، بعيدا الى ما هو خارج النسق البارز، ليتفحص قصائد شعراء لا يكتبون بقصد الارتقاء الى منازل الشعر العليا، بل الهبوط الى مناجم الغضب السحيقة. لا تطلعات لديهم نحو الجوائز والترجمات والشهرة بل يتخذون من الشعر (وسيلة مقاومة جماعية توفر نوعا من التوازن النفسي
للمظلومين).
قصائد لم تألفها المنابر الشعرية ولا المقاهي الثقافية ولا المنصات الأكاديمية، تسللت لنا عبر منافذ شبه سرية مغلفة بقمصان الشعراء الملطخة بالعرق والدم، لا تتوجس خيفة من نقد ولا تسعى لتكون بين دفات الرسائل الجامعية، بل اتخذت من شارع المتنبي وساحات الاحتجاج ووسائط التواصل الاجتماعي ملاذا لها، لا تشعر بالحرج من أن يكون أحد أبطالها  (حسوني الذي يُكنى بالوصخ)، كما هو في قصيدة، أبدية مؤقتة، للشاعر سلمان داوود، حسوني الأشعث مثل عامل المناجم، الذي يحدق بغضب.
ضمن متابعتي بفضول وتمعن وعن بُعد لما يتيسر لي مما ينجزه الأصدقاء لرؤية أمواج فيض الابداع العراقي، التي تعلو شاهقة معلنة اختلافها عن السائد قبلها والسائر بجوارها، خصوصا في حقل الشعر بعد عام 2003، قرأت كتاب (الدقيق الأحمرـ تمثلات الحرمان والاحتجاج في الشعر العراقي المعاصر)، يقدم الكتاب خلاصة تدوين معرفي ونقدي لمشهد شعري محتدم.   يقدم الفصل الأول والثاني تمهيدا نظريا لمعنى وآليات النقد الثقافي، التي اعتمدها د.عماد جاسم  لتفحص وتشريح جسد قصيدة متمردة، لجيل وِلد ليشقى وفي الفصول الأخرى دراسة نقدية  لقصائد تنفث غضبا معلنة عن احتجاجها الملتهب.
يضم الكتاب بين دفتيه نصوصا أعلنت بشجاعة مفرطة عن مغادرتها لهدوء الشعر "وسماحته وسيادته وسموه وجلاله"، لتكون رغيفا ساخنا للجائعين وأغاني للصخب
والغضب.
رأيت نفسي أصافح شعراء بعضهم من أصدقائي الذين أفخر بهم، أحمد عبد الحسين، عارف الساعدي، عدنان الصائغ، موفق محمد، فارس حرام، عبد الرزاق الربيعي، عبد الخالق كيطان، عبد الزهرة زكي، دنيا ميخائيل، علي وجيه، أدهم عادل، وبعضهم سأبحث عنهم لأطلب صداقتهم باعتزاز وفخر مثل كاظم خنجر، آية منصور، عماد المياحي، فليحة حسن، وسام العاني، عبد الكريم هداد، أجود مجبل، جميل الجميل، نجاة عبد الله، ضياء حميو، حسين غازي سلمان،  هبة الجرّاح، محمد نعيم الخرسان، لبنى الحديثي وآخرين ممن جعلوا، من قصائدهم مدونات حقيقة للغائر في قاع المجتمع، فضمهم الكتاب الذي سعى هو الآخر ليكون مدونة لشعر
مغاير.