محمد صابر عبيد
القراءة فعل لا بد منه للقارئ، ورغبة القراءة تكاد تكون فطرية لمن يعرفها ويجيدها، وثمّة مستويات للقراءة تبدأ من قراءة التسلية وتنتهي بقراءة الاحتراف، وإذا كانت قراءة التسلية يشترك فيها كل جمهور القرّاء فإن قراءة الاحتراف قراءة متخصصة جداً لا يصل إليها إلا من تصدى للأمر على نحو مقصدي جيد وكفوء، والقراءة فعل إنساني خلاق ـ مهما كان نوع القراءة ومستواها ـ، لذا ترى أفراد الشعوب المتطورة والمتقدمة يقرؤون في كل مكان، في الحافلات والقطارات والمتروات والطائرات ومحطات الانتظار، في كل وقت وحين.
قرّاء من هذا النّوع وعلى هذه الصورة لا يفرّطون بدقيقة واحدة من هذا الوقت شبه الضائع كي يثرونه بالقراءة، فماذا يعني هذا؟ لا بدّ أنّه يعني ما تنطوي عليه القراءة من أسباب الحضارة والثقافة والتمدّن والوعي والحبّ، وما يمكن أن تسهم فيه من تطوير فكريّ ورؤيويّ ومزاجيّ لمن يقرأ، فضلاً على التسلية وعبور الأوقات المقتولة بإجراء مفيد.
الحاجة إلى القراءة إنّما هي تطوّر حضاريّ لحاجة الإنسان الدائمة إلى السرد والحكي من أجل الإحساس بتوكيد الوجود، فالإنسان في مرحلته الثقافيّة الشفويّة كان يحتفي بالسرد الشفاهيّ بوصفه وسيلة من وسائل التسلية والتثقيف والاطلاع والمعرفة، وحين ولدت الكتابة وتحوّلت المجتمعات من الشفاهيّة إلى التدوينيّة الكتابيّة، صارت القراءة للمكتوب بديلاً عن الحكي الشفاهيّ المحروس بذاكرةٍ قابلةٍ للنسيان والخلط والسهو، وصار الحكي يتجلّى على نحو أكثر عمقاً ودفئاً وصيرورةً في ميدان الكتابة على نحو بصريّ مرئيّ، والكتابةُ تنتظرُ القراءةَ دائماً كي تحيا بها وتنفتح على إمكان وجودها وقوّة تأثيرها في المحيط القرائيّ.
إذ لا كتابة حيّة يمكن أن تتحوّل إلى مُنتَجٍ حضاريٍّ راقٍ ومؤثّرٍ من دون قراءة تنقلها من حيّز المكتوب المُعتقَل داخل أسر اللغة، إلى فضاء المقروء المنفتح على أفق الحياة بأرحب معانيها وقيمها وتشكيلاتها، وتحقّق لها التداوليّة المطلوبة ضمن سياقات كثيرة تتعدّد وتتنوّع بتعدّد القراءة وتنوّعها، فموجبات القراءة هي موجبات الحياة نفسها على صعيد الحاجة الإنسانيّة إلى تداول الأفكار والقيم والحالات والمشاعر.
فلا بدّ من حضور القراءة حتى تحضر النصوص في خطاباتها الموجّهة نحو إسعاد البشر والإعلاء من شأنهم البشريّ، فمن دونها لا يمكن للحضارات أن تستمرّ وترتقي وتُسعِدَ الإنسان، فسعادة الإنسان في القراءة دائماً، حيث تجمعُ القراءةُ الصورةَ الشفاهيّة للحكي والصورةَ الكتابيّة للقصّ والسرد، وطالما أنّ البشر بحاجة دائمة للسرد والحكي فالأحرى أن تكون القراءة هي الوسيلة الأمثل للتفاعل مع الحكي والسرد والشعر والفكر والثقافة، وهي الحال النموذجيّة القادرة على احتواء هذه الحاجة وتحويلها إلى وسيلة ثقافيّة عالية التأثير، على نحو تصبح فيه الحاجة إلى القراءة حاجةً يوميّةً تغذّي الفكر والرؤية والمزاج والحسّاسيّة، فضلاً عن قدرتها على ضخّ طاقة معلوماتيّة جديدة في كلّ جولة من جولاتها.
اختيار النصّ:
مرحلة اختيار النصّ الصالح للقراءة مرحلة في غاية الأهميّة لأنّها تضع الأشياء كلّها في مسارها الصحيح منذ البداية، فإذا اختار القارئ نصّاً جيداً وهو ما يجب أن يكون، تصبح بعد ذلك كلّ مسارات القراءة صحيحة، واختيار النصّ من القراءة الأولى يقوم على أساس الخبرة القرائيّة التي تجعل مَهمّة الاختيار أكثر يُسراً، وهذا الاختيار نوعيّ يتوافر عادةً على شرط الفنيّة بما تحمله الذائقة النقديّة من مجسّات، يكون بوسعها الذهاب إلى منطقة الاختيار بقوّة وثقة وجدارة وكفاءة، يمكن تشبيه عمليّة الاختيار الأوّل للنصّ الصالح للقراءة بعمل الواخزة التي تكشف حقل الألغام في مجال الهندسة العسكريّة، فهي ذات حسّاسيّة مركّبة بوسعها تعيين المكان الذي يكمن فيه اللغم وتأشير منطقته، بما يسهّل للفاعل الكاشف عمليّة الكشف والمعالجة التي تؤمّن عمليّة البحث وتصل بها إلى طريق مفتوح قابل
للعمل.
وهو ما تعمل الذائقة النقديّة المركّبة والمدرّبة والحسّاسة والكفوءة على كشفه من بين نصوص عديدة، وحين يتحقّق ذلك على وجه محدّد يتحوّل القارىء من مرحلة عمل الذائقة بوجدانها العرفانيّ إلى المختبر النقديّ بآليّاته البرهانيّة، وفي هذا المختبر ثمّة أدوات عمل تحليليّة إجرائيّة تتدخّل في طبقات النصّ وفضاءاته وظلاله وجيوبه، فتتسلّط هذه الآليّات على النصّ المُنتخَب من أجل أن تجوبَ أجواءَه وتكشفَ عن مكانزه وأحجاره الثمينة.
بمعنى أنّ الاختيار الأوّل للنصّ (المِجسّيّ) هو المرحلة الابتدائيّة والحاسمة التي تنقل العمل النقديّ فيما بعد إلى عتبة الإجراء النقديّ تحليلاً وتأويلاً، ولا بدّ أن يحظى هذا الاختيار بمثول الحسّاسيّة القرائيّة في أبلغ درجاتها حتى تصل فعاليّة الاختيار إلى الحالة المثاليّة، ويتحقّق الجزء الأهمّ من الممارسة القرائيّة في السبيل إلى تحقّق المنشود والمؤمّل والمرتجى من فعل القراءة، بين مرحلة الاختيار ومرحلة الإجراء القرائيّ، والاختيار هنا حين يصل إلى مرحلة الاكتمال من حيث كفاءة الاختيار الأوّل (المجسّي) فإنّه يساعد كثيراً في مرحلة التحليل والإجراء، لأنّ المختبر النقديّ في هذه الحالة يبدأ فوراً بالعمل من دون إعادة فحصٍ جماليٍّ للنصّ، على أساس أنّ الذائقة أدّتْ هذا الدور بنجاح وأنّ نوعيّة النصّ
محسومة.
العلاقة بين الاختيار في سياق عمل الذائقة، والإجراء القرائيّ النقديّ في مختبر
التحليل والتفكيك والتأويل والكشف، يجب أن تكون علاقة متفاعلة على درجة كبيرة جداً من التلاؤم والتداخل والديمومة والاستمرار، بمعنى أنّ الذائقة لا تتوقّف عند حدود الاختيار الأوّلي للنصّ بوصفه نصّاً صالحاً للقراءة النقديّة، بل تظلّ حاضرة وتعمل وتتدخّل في حقل الإجراء التحليليّ والتفكيكيّ والتأويليّ والكشفيّ في مراحله كلّها.