قطاع الكهرباء: بين هدر الدولة وهدر المواطن

آراء 2023/07/23
...

 رعد أطياف

 يميل العراقيون، بحكم الاعتياد من جهة والبنية الثقافية من جهة أخرى، إلى النظر للدولة، بوصفها الضامن الأساسي لكل شؤون حياتهم؛ ابتداء من تملك العقار، ونهاية بتوفير وظيفة تضمن مرتباً تقاعدياً في نهاية الخدمة. لا يعني الغياب الكلي للمشاريع الخاصة، إلا أن الأعم الأغلب من العراقيين يأخذهم الحنين دوماً للقطاع العام، ذلك أن القطاع الخاص لم يشهد انتعاشاً ملحوظاً أو مساهمة حقيقية برفد الاقتصاد؛ فالريع أساس الاقتصاد العراقي والثروة النفطية تشكل لحمه وسداه.

يكفي أن نعرف أن الصادرات النفطية “لا تزال تشكل قرابة 91 % من إجمالي الإيرادات الفعلية السنوية في الموازنات الحكومية مقابل 9 % للإيرادات غير النفطية”. ومن هنا نفهم ميل العراقيين للاعتماد على القطاع العام كضامن أساسي لحياتهم المعيشية. ظل حلم الدولة بوصفها الضامن الأساسي في ما يتعلّق بالأشياء الأساسية: العقار، والوظيفة، (والمواد الغذائية التي بدأت قصتها مع الحصار الاقتصادي)، حلم الأغلبية الساحقة من العراقيين. ومن أهم القطاعات الرئيسية التي تتكفلها الدولة بشكل أساسي هو قطاع الكهرباء، وقد تعرض هذا القطاع الحيوي إلى ضربات موجعة وأعطاب متسلسلة ابتداء من ضربات التحالف الأمريكي في حقبة التسعينيات ونهاية باحتلاله لبغداد عام 2003. 

في فترات الحصار الاقتصادي الموحشة، لم تكن ثمّة سوق مفتوحة كما نشهده الآن، ولم يكن ثمة بديل يمكنه أن يعوض ساعات الانقطاع. الدولة وحدها تتكفل بالتعويض، ولا حلول سوى سياسة القطع المبرمج.

 ما بعد 2003 شهد هذا القطاع تعثرات كبيرة، ومنها الفساد المستشري لدرجة أنه يصعب السيطرة عليه، يكفي أن نعرف حجم الأموال المبذولة لبناء المنظومة الكهربائية ليتّضح حجم الفساد في هذا القطاع المهم. 

المهم في الأمر، ابتدأت حقبة جديدة؛ إذ تحوّل جزء من هذا القطاع، بشكل غير رسمي، إلى شبه قطاع خاص؛ مولّدات محلية تعوض انقطاعات الكهرباء الوطنية مقابل أجور شهرية تُستَقطَع حسب عدد الأمبيرات المُستَهلَكة. لكن هذه المرة التبذير غير مسموح! ولابد من المستهلك مراقبة عدد الأجهزة في المنزل، واقتناء الاقتصادي وغير المكلف منها، للاستفادة بأكبر حمولة كهربائية ممكنة بهذه الأمبيرات الخمسة، التي يدفع مقابلها أجراً أكثر بأضعاف ما يدفعه للدولة سابقاً ولاحقاً. ما أن تحول الأمر إلى هذا “القطاع الخاص” الجديد تعلّم المواطن معنى ترشيد الاستهلاك! في حين لم يكن هذا المعنى وارداً في أولوياته يوم كان يستهلك الكهرباء بلا قيد أو شرط، يكفي أن يدفع مبلغاً رمزياً لقاء هذا الهدر المستمر. 

أكثر من ذلك، من النادر جداً العثور على أسرة عراقية يمكنها المجازفة بشراء أجهزة كهربائية مكلفة من حيث الاستهلاك؛ أنهم يبحثون دائماً عن مصباح اقتصادي، وجهاز تبريد لا يكلّف المزيد من الأمبيرات خشية الكلفة المضاعفة، وبخلافه سينقطع التيار الكهربائي في البيت نتيجة للحمولة الزائدة من جهة والتحكم المبرمج بواسطة زر التحكم المتصل بالمولّد المحلّي. لا دولة هنا يمكنها أن توهب بالمجان، ولا مجال للتبذير، لأنه محسوب بدقّة بحيث جعلت من المواطن العراقي محاسب بارع في ما يخص استهلاكه اليومي للكهرباء. تهكمَ الكثير من الناس بخصوص تشريد استهلاك الكهرباء، لكن ما أن تم الضغط على العصب الحساس، وأعني به الفاتورة، لم يعد لهذا التهكم من جمهور يُذكر. 

بالطبع هذا لا يغطي على حجم الفساد المهول والميزانيات الضخمة التي تم تخصيصها بسخاء لقطاع الكهرباء، لكن هذا السؤال لا بد منه: لماذا نتصرف بسخاء، على طريقة “وهب الأمير ما لا يملك”، حين يتعلق الأمر بغيرنا، أعني القطاع العام، ولا نفكر بحجم المهدور من الكهرباء والماء (وهذا الأخير قصته حزينة للغاية)، إلا إذا أصبح من ملكيتنا الخاصة؟.