جواد علي كسار
رد الإمام الحسين عليه السلام على أخيه من أبيه محمد بن الحنفية بعد محاورة طويلة، فقال: «يا أخي، لو لم يكن في الدنيا ملجأ ولا مأوى لما بايعت يزيد بن معاوية، يا أخي جزاك الله خيراً.. لقد نصحتَ وأشرتَ بالصواب.. وأنا عازمٌ على الخروج إلى مكة، وقد تهيأت لذلك أنا واخوتي وبنو أخي وشيعتي.. أمرهم أمري.. ورأيهم رأيي، وأما أنت فلا عليك أن تقيمَ بالمدينة، فتكون لي عيناً عليهم، لا تخفي عني شيئاً من أمورهم».
ليس هذا النص الحسيني الوضّاء هو الوحيد في رفض البيعة ليزيد وتأليب المسلمين على ملوكية البيت الأموي الذي زاغ بالخلافة عن خطها، وإنما ثمّ في نصوص النهضة وبياناتها معالم أخرى تبيّن الرفض، وتضع الأمة أمام مسؤوليتها.
يقول الإمام أبو عبد الله في جواب مروان بن الحكم حين طلب منه مبايعة يزيد: «إنا لله وإنا إليه راجعون، وعلى الإسلام السلام، إذا بُليت الأمة براعٍ مثل يزيد». ثمّ يضيف عليه السلام: «ولقد سمعتُ جدّي رسول الله صلى الله عليه وآله، يقول: الخلافة محرّمة على آل أبي سفيان، فإذا رأيتم معاوية على منبري فابقروا بطنه.. وقد رآه أهل المدينة فلم يبقروا، فابتلاهم الله بيزيد الفاسق».
(1)
ليست كربلاء ذكرى في التاريخ تأتي وتمضي وتمرّ، وليس النص الحسيني نصاً محدوداً بزمانه ومكانه، بل كربلاء نافذة الأجيال، يشرب من منبعها كلّ جيلٍ، وتتعلم منها الشعوب.
النص الحسيني مفتاح وعينا المستضيء المستبصر، نواجه به الحياة ونعي مشكلاتها من حولنا، ونتحصّن ببصيرته من لوابس الزمان. فكم من يزيد يعيش بين ظهراني أمتنا اليوم، وكم من راية سفيانية تُرفع في رحاب بلاد المسلمين؟ لقد عاد الخطّان يعتركان، وعادت الحركتان تتواجهان في مسرح حياتنا المعاصرة، إذ نعايش في كلّ لحظة ضغوطات الحركة السفيانية ترفع سيوف حقدها على المسلمين وتهوى بها على المؤمنين في بعض بقاع عالمنا الإسلامي.
وفي الأمس القريب في عراق الحسين نفسه كان صدام قد أعادها مواجهة سفيانية - أموية حاقدة ضد الحسينية الملهمة من خطّ علي والرسول، ثمّ انكفأ بالبلد والمنطقة بسلسلة من التراجعات والانكسارات الحضارية التي لم تنتهِ إلا بحماسة حسينية متوهّجة حاضرة، تستمدّ من ابن بنت الرسول هديه الوضّاء، ومن طفوف كربلاء تلك الوثبة الشامخة في الوعي والوجدان والضمير.
(2)
لقد استأثرت واقعة 10 محرم 61هـ بمساحة واسعة ممتدّة من حياة المسلمين كان لها كما أريد لها أنْ تكون؛ فعل الهزة النافضة حيثما بلغ خبرها من بيئات المسلمين وديارهم آنئذ. فسرعان ما راح ينتشر أمرها بعبور الفراسخ والأعوام، ويلتهم ذكرها مكنونات الضمائر والعقول.
لم تكن حادثة عادية تلك التي لم تستغرق وقائعها من عمر الزمن إلا ساعات من نهار؛ منذ أول الصبيحة حتى الساعتين بعد الظهر أو ثلاث. لم تكن عادية لا في شواخصها ولا في توقيتها، ولا في ضروب المآسي التي صبغت بالحمرة إلى الأبد رمال كربلاء.
ساعات قليلة لكنها استجمعت نفسها معنىً قدسياً مدمىً ينطلق مشتداً ليخرق أزمنة الأرض، ويظلّ يحفر الذاكرة الإسلامية بنصلةٍ هي أحدّ من نصلة السكين، وأبقى أثراً من النقش العميق على رواسي جبال التاريخ.
قبل الثورة الحسينيَّة قامت السلطات الحاكمة بسحق الروح التغييريَّة في الأمة عن طريق الإرهاب الجماعي، وتنمية الروح الطبقيَّة الباذخة، وتعميق الهوّة بين الفرد وإيمانه، حتى كثرت التجمّعات وغلبت المصلحة على كلّ شيء، ووصلت الأخلاق العامة إلى أقصى درجة من الانحدار.
وفي زمن تواصل فيه السلطة القتل كأبسط الوسائل لضرب انتماء الإنسان، كان التملص من الانتماء والتنقل من ولاءٍ لآخر، ومن جبهة لجبهة، سمة عامَّة وكانت السلطات التي تحكم باسم الدين؛ كانت بنفسها تعيش التحلل العميق من أي التزام.
وحين يحكم السيف تضيع الكرامة، يشهد على صدق ذلك واقعنا المعيش. وعندئذ يستسلم الكثيرون ويستدعون من أنفسهم كلّ الكوامن الخبيثة ليعايشوا السلطة الفاجرة بأسلحة من طباعها. وعندما ينتصر الباطل بما يمثله من ظلم واحتكار ويكتسح الإرهاب البلاد يحدث ما يشبه الوباء، لأنه يفصل بين لقمة العيش وبين إيمان الإنسان والتزامه، فيجبر الناس على الانتماء للسلطة من أجل الحصول على لقمة العيش. كانت هذه هي الصورة التي بدأت تنفذ إلى مسامات المجتمع الإسلامي قبل عاشوراء. ولكنْ ماذا صار مآلها بعد الطفوف؟
انعكست بعد نهضة سيد الشهداء روح المقاومة التي أبداها رجال الحسين خلال النهار الواحد واستشهدوا فيها جميعاً؛ انعكست هذه الروح على الجماهير فشعرت وربما للمرّة الأولى بعد عقدين، أنَّ روح الرفض ما زالت متوهجة، وأنَّ عنصر المقاومة على خطّ إحياء الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لم يخمد أبداً بعد أنْ تحرّك فيها دم الحسين السبط.
تلك هي الصورة بعد عاشوراء، وهذه هي روح الأمة بعد طفّ كربلاء.
ما أروع «المعرّي» الذي استلهم هذه المعاني فنسجها بياناً شعرياً يترامى على مرّ العصور، حين قال:
وعلى الأفق من دماء الشهيدين عليّ ونجله شاهدان
فهما في أوائل الصبح فجران وفي أخرياته شفقان
(3)
عندما نزل الحسين في أحد منازل الطريق إلى كربلاء أتاه رجلٌ من العراق فسأله، فأخبره عليه السلام بحاله، ثمّ قال: إنَّ الأمر لله يفعل ما يشاء، وربنا تبارك وتعالى كلّ يوم هو في شأن، فإنْ نزل القضاء فالحمد لله على نعمائه، وهو المستعان على أداء الشكر، ثمّ أنشد سيد الشهداء
هذه الروائع:
فإنْ تكن الدنيا نفيسة فدار ثواب الله أعلا وأنبل
وإنْ تكن الأموال للترك جمعها فما بال متروك به المرء يبخل
وإن تكن الأرزاق قسماً مقسّما فقلة حرص المرء في الكسب أجمل
وإنْ تكن الأبدان للموت أُنشئت فقتل امرئ بالسيف في الله أفضل
عليكم سلام الله يا آل أحمد فإنَّي أراني عنكم سوف أرحل