مستقبل الحكم الفردي

آراء 2023/07/25
...

  ساطع راجي

كان موقف الدول العربية المتحالفة مع الولايات المتحدة من الحرب الأوكرانية، خارج التوقعات، فهذه الدول وخاصة الخليجية أظهرت تحفظها على إعلان مساندتها للجانب الأميركي والغربي في الحرب، وفي أكثر من حالة بدت عواصم الخليج العربية أقرب إلى موسكو.

رغم أن القراءات الاقتصادية والأمنية تقدمت التفسيرات للصراع بين الغرب بقيادة الولايات المتحدة من جهة وروسيا وحلفائها من جهة أخرى، والذي أصبحت أوكرانيا ساحته، فإن قضية سياسية، هي التي تدفع نحو المواجهة بين الطرفين، وتتمثل في شكل نظام الحكم الذي يجب أن يسود، وهذه النقطة جوهرية وحاسمة أربكت الاصطفافات التقليدية.

بنهاية الحرب الباردة وانهيار المعسكر الاشتراكي، كان الغرب الرأسمالي الديمقراطي الليبرالي، يتوقع سيادة نموذجه السياسي في معظم أنحاء العالم، وأن أوروبا كلها بما فيها روسيا من الضروري أن تتحول إلى هذا النموذج (المنتصر) بأسرع وقت، ومن الملاحظ أن النظم السياسية في أوربا الشرقية قد اتجهت فعلا وبسرعة إلى تطبيق النموذج الغربي، لكن كلما اتجهنا شرقا كانت المصاعب تتزايد أمام تطبيق هذا النموذج، قد يفسر بعض المؤرخين هذه الظاهرة بأنها نتيجة لعلاقات الهامش الاوربي (روسيا) بالمركز، وأن روسيا هي أقرب إلى المجتمعات الآسيوية، التي تفضل حكم الفرد على النظام الديمقراطي، وعملية الشد والجذب بين هامش أوربا ومركزها هو ما قاد إلى الحرب الأوكرانية.

لو وضعنا قائمة بالدول الملتفة حول روسيا اليوم، سنجدها جميعا دولا يحكمها فرد (قائد) أو حزب واحد، ولذلك فإن حكومات الخليج العربية وجدت نفسها أقرب إلى موقف روسيا في هذه المواجهة من موقف حليفتها التقليدية الولايات المتحدة، وحتى الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، يقف قريبا من المحور الروسي لأنه ينتمي فكريا لمنظومة الحاكم الفرد.

في طريق النظام السياسي لكلا المعسكرين عقبات كبيرة، تتعلق بجوهري النظامين، ورغم أن كلا منهما قادر على الاستمرار لزمن طويل في مسرح السياسة، إلا أنهما سيعيشان في ضيق ومعاناة ما لم يواجها مشكلاتهما.

لم يعد حكم الفرد أنموذجا فعالا لإدارة الدول والمجتمعات، فهذا الفرد ليس موضوعيا دائما في تعامله مع قضايا الحكم، وسيضع أولوية بقائه في السلطة قبل أهداف الدولة والمجتمع، إن بقاء شخص ما في حالة توازن نفسي وعقلي وسلامة صحية بشكل دائم هو أمر مستحيل، بينما التحديات المعاصرة تحتاج إلى معالجات طويلة الأمد، لن تتماسك في ظل إدارة فردية مزاجية تخضع الدولة لمصالحها وعلاقاتها، ولم تعد المجتمعات في حضارة عنوانها الاكبر التغيير السريع، يمكن أن تبقى خاضعة لإرادة شخص واحد على مدار عقود، كما لم يعد ممكنا تسويق صورة الفرد الفذ الملهم العبقري، الذي يعرف كل شيء وقادر على كل شيء، وليس ممكنا تقبل الخضوع المطلق لرغباته وشطحاته مهما كانت الآلة الاعلامية للحكم قوية، وفي عصر تأمين المستقبل والخطط الاقتصادية طويلة الأمد، لن يكون سهلا تجاهل إمكانية موت الزعيم أو إصابته بالخرف أو خضوعه لأفراد أسرته في أي لحظة، لذلك فإن المجتمعات التي تستسلم وتحبذ هذا النمط من الحكم إنما تعيش على حافة الانهيار دائما.

الأخطر، إن نظم الحكم الفردي ستكون بمواجهة دائمة مع النصف الآخر من العالم، النصف الرأسمالي الليبرالي الديمقراطي، الذي أنتج العولمة الاقتصادية، ويرى أنها لن تكون فعالة إلا بعولمة الديمقراطية، لتكون أنظمة الحكم متشابهة لسببين، الأول تسهيل التعامل والتعايش وثانيا تسهيل تدخل القوة الغربية في دول المعسكر الآخر.

عقدة النظام الغربي الرأسمالي الليبرالي الديمقراطي أنه يتحرك وفقا للتسلسل الذي نصفه به هنا، فالقضية الأولى بالنسبة له هي المصالح الاقتصادية ثم تليها الرغبة باشاعة الليبرالية الاجتماعية، قبل الوصول إلى الديمقراطية السياسية، فالقوى الغربية يمكن أن تتجاهل الليبرالية والديمقراطية، من أجل الرأسمالية (كما تفعل مع دول الخليج مثلا)، ويمكن أن تتجاهل الديمقراطية إذا عرقلت الليبرالية كما هو الحال مع مصر ودول أخرى، لكنها ما أن تتمكن من تثبيت علاقاتها ومصالحها الرأسمالية، حتى تتجه إلى فرض ليبراليتها الاجتماعية، حتى لو تقاطعت مع الاتجاهات الشعبية والتقاليد الراسخة والثقافة السائدة في المجتمعات المستهدفة، والغرب يعتبر أن الليبرالية ضرورة للاستقرار العالمي، لأنها تسهل عيش مواطنيه وموظفيه ومستثمريه بأي مكان في العالم، ولن يكلفه ذلك كثيرا من الضمانات الاقتصادية والامنية لإقناع هؤلاء بالانتشار عالميا، فمواطنو أقوى وأغنى دول العالم حاليا، هم الأكثر عرضة للتهديد والتضييق، بسبب نمط حياتهم والمواقف السياسية لبلدانهم.

سنحتاج إلى كثير من المعلومات والتحليلات للتأكد من نوع الأولويات، التي تقف وراء المواجهة الراهنة، التي وضعت العالم على حافة الدمار والتجويع أقرب من أي وقت مضى منذ الحرب العالمية الثانية، لكن الواضح حتى الآن أن نظم الحكم الفردي تشعر بفقدانها لأي تبرير واقعي لإستمرارها، ومعظم الحكام الفرديين الحاليين، لا يعرفون كيف ستنتقل السلطة منهم ولا من سيخلفهم، وهم غير متيقنين من صمود آليات إنتقال السلطة في بلدانهم.

أما الجبهة الغربية فهي تشعر بأنها محاصرة، وفي حالة دفاع عن النفس ومخترقة بسبب الخلل الديموغرافي وانتهاء مرحلة الاستعمار وتصاعد الهجرة من العالم الثالث، وكذلك فشل آليات الادماج الحكومية، وتعدد المجتمعات وتناحرها داخل الدولة الواحدة، كما يعبر الرئيس الفرنسي ماكرون عن وضع بلاده، والخلطة المعقدة في الغرب سهلت صعود المتطرفين النازيين، وهو ما يشكل الخطر الاكبر للمنظومة الغربية (الرأسمالية لأن المد النازي يهدد وجود الايدي العاملة المهاجرة الرخيصة)، و(الليبرالية لأن النازيين يميلون إلى السلوك الاجتماعي المحافظ) و(الديمقراطية لأن النازيين سيعملون على اقصاء القوى الاجتماعية المهاجرة وحرمان الاحزاب التقليدية من أصواتهم).

وبينما تبدو الأزمة في عمقها وسطحها ثقافية، يخلو النقاش السياسي العالمي من طروحات عميقة وواقعية، ويبدو أن عقودا من هيمنة الاستهلاكية والاستعراضية والاستقطاب السياسي المؤسساتي على الانتاج الفكري، تظهر نتائجها الكارثية اليوم، حيث يهيمن المضاربون ببورصات الطاقة، ومدونو مواقع التواصل على القرارات السياسية، التي يتخذها موظفون وحكام منشغلون بتدبير شؤونهم الخاصة وعلاقاتهم الاجتماعية بالدرجة الأولى.

يمكن بسهولة قلب التساؤل عن مستقبل الحكم الفردي إلى التساؤل عن مستقبل الديمقراطية، لكن هذه السهولة متوفرة فقط في حيز التلاعب اللغوي، أما عمليا وتأريخيا فهو صعب جدا، لأن كل نظم الحكم الفردي تنكر حقيقتها وتدعي في دعايتها وهياكلها ومؤسساتها أنها تمثل إرداة المواطنين بشكل أو آخر، فهي تدرك أنها تنتمي إلى الماضي البدائي، وأن قدرات الدول وقوتها تتزايد كلما كانت ديمقراطية أكثر، وأن حكامها ليسوا عظماء بالتأكيد.