لماذا نحبّ ميلان كونديرا

ثقافة 2023/07/26
...

بغداد: نوارة محمد

يعدّ الروائي التشيكي ميلان كونديرا واحدًا من الذين أثّروا في الثقافة العراقيَّة في فترة تسعينيات القرن الماضي برفقة ماركيز وكامو وسارتر وكولن ويلسون. أثر كونديرا في الوجدان الثقافي العراقي لما في كتاباته من روحٍ متمردةٍ ومتطلعة إلى الحريات كما شكّل أسلوب كونديرا في الرواية منطقة جذب للكثير من الشباب آنذاك.

 بعد رحليه عن عمر ناهز 94 عاماً ترك الكاتب والروائي ميلان كونديرا علاماتٍ حُفرت في ذاكرة العالم. كان من أكثر الروائيين تأثيرًا في أجيالٍ متعاقبة وهو وإن مال إلى النزعة الثوريَّة إلا أنه كان شديد التعلق بالحياة الاعتياديَّة ولعلَّ عبارة (صراع الإنسان ضدّ السلطة هو صراع الذاكرة ضدّ النسيان) التي كتبها كونديرا جسَّدت هذا المزج الثوري والحياتي في السرد والرواية اللذين عُرف بهما. صاحب رواية (حفلة التفاهة) واجه قسوة العالم بأسلوبه الساخر حتى أنه عرّف نفسه قائلًا: “تريد أنْ تعرفني، اقرأني” فعرفه العالم بعد أنْ تُرجم إلى أربعين لغة.
 المبدع الذي وُلد في التشيك سرعان ما واجه متاعب سياسيَّة بسبب مؤلفاته، التي بدت خارج التيار الأدبي السائد وروايته “المزحة” التي تقدم نوعًا من الكوميديا السوداء كانت السبب وراء نفيه لينتقل إلى فرنسا على الرغم من ورود اسمه عدة مرات بين المرشحين لجائزة نوبل في الأدب، إلا أنه لم يحصل عليها. لكنَّ الجمهور أحبهُ وصحيفة “الصباح” تسأل لماذا نحبّ كونديرا؟
يفسِّر ذلك الكاتب علي حسين، “في كلِّ عام ومع اقتراب الإعلان عن جوائز نوبل للآداب كنت أفكر في ميلان كونديرا، وهل سيُمنح الجائزة هذا العام؟. هذه السنة ستكون حتمًا الوحيدة التي لا يدخل فيها كونديرا ضمن قوائم الترشيح الذهبيَّة، سيغيب اسمه عن أخبار نوبل وتوقعات القرّاء. لكن هل سيغيب كونديرا الروائي؟ في كلِّ مرة أدخل إحدى مكتبات المتنبي أسأل أحد الأصدقاء من أصحاب المكتبات: هل ما زالت روايات كونديرا تلقى رواجاً، إلى الآن؟”، ويكون الجواب بنعم، حتى أنَّ الطبعات الأصليَّة من كتبه يتم تصويرها وبيعها بأسعار مخفضة. كان من الصعب من قبل التفكير في كاتب رواية معاصر تم الاحتفاء به من قبل القراء مثل كونديرا، وعندما يسألني أحدٌ لماذا تقرأ كونديرا؟ سأجيب حتمًا أنَّ ما من كاتب رواية في عصرنا الحديث أحدث تحوّلًا في الأسلوب الذي كان يُعبِّر به أقرانه الروائيون في العصر الحديث فقد خلق أسلوبًا جديدًا شخصيًا شديد المعاصرة. لقد مزج بين ثقافته وتربيته في براغ وبين حياته التي عاشها في فرنسا وجعل من نفسه نموذجًا مجسدًا للإنسان المعاصر وأزمته. هل كانت شهرة كونديرا كإنسان توازي شهرته كروائي؟ بالتأكيد لا فقد غلبت صفة الروائي الماهر على الإنسان الذي كان يحبّ العزلة والصمت ويتهرّب من الصحافة. لقد أوضح كونديرا لقرّائه أنَّ الفنَّ الروائي الحقيقي مصنوع من المعرفة والتجربة، وأنَّ الكاتب إذا مُنح التجربة والمعرفة فإنَّ العالم كله يصبح وطنه المألوف. ولهذا نجد ونحن نقرأ روايات كونديرا أننا نستكشف معه مفارقات الوجود الإنساني، ما من أحد أكثر منه موهبة في الكشف عن الضلالات التي نعيش فيها، والأدوار التي فُرضت علينا كي نلعبها في الحياة، وأكاذيبنا، واستعراضاتنا، وحيلنا ومراوغاتنا لصدّ “خفة الكائن التي لا تحتمل”، ولا أحد مثله باستطاعته المزج مزجًا بارعًا وبطريقة أقرب إلى كتابة النوتة الموسيقيَّة، بين الخيال الروائي، والمقالة الفلسفيَّة، إنَّ فكرته الأساسيَّة في معظم أعماله الروائيَّة، هي أن لا وجود للهويَّة، لأنَّ مظهرنا الجسدي أمر اعتباطي، دائم التحوّل، وذاكرتنا لا يمكن الوثوق بها كثيرًا، ولأنَّ آراءنا وأفكارنا وأذواقنا وأنماط عيشنا إنّما تصوغها الصدفة، يخبرنا كونديرا أنَّ الإيجابي هو الذي أدرك الطبيعة التراجيكوميديَّة للحياة الإنسانيَّة، والسلبي هو ذلك الذي يسعى دومًا إلى إقناعك بالانتماء إلى شيء ما، بلد أو حزب، أو دين أو عائلة. لا أتذكر التاريخ الذي وقعت فيه بحب روايات كونديرا، لكنني وجدته منذ القراءة الأولى أحد الاكتشافات الباهرة في عالم القراءة بالنسبة لي وسيظل كذلك.”
ويبين الكاتب والروائي علي بدر شدة تعلقه في كونديراً إذ يقول: “أول مرة أتعرف على كتابات ميلان كونديرا في بغداد ومن بينها كتاب صغير بعنوان غراميات مرحة، غرقت في قراءته، وعلى الرغم من صغر حجمه أذهلني بتهكمه الفلسفي، أول مرة أقرأ خليطًا من تراسترام شاندي وغمبروفتش. قرأت بعدها تقريرًا عنه في الأمريكان تعرف فيه عن حياته ومكانته الأدبيَّة ورحلته المعروفة مع الحزب الشيوعي في الخمسينيات إلى جانب اشتراكه في أحداث براغ، ومن ثم مغادرته للبلاد وانتظرت عامًا آخر لأجد روايته الحياة في مكان آخر مترجمة للعربيَّة وصادرة عن الآداب، وهو عمل مذهل من الشراسة الهزليَّة وسط عصر من الستالينيَّة الطاغية، وبعد نهاية المرحلة الاشتراكيَّة أنا على الصعيد الشخصي تصورت أنَّ كونديرا سيعود إلى بلاده. لكنه لم يعد، بل هرب من الصحافة، وطالب بعدم نشر رواياته باللغة التشيكيَّة. في أغلب رواياته يتحدث عن الكاتب غير المرئي، فهو يقول إنه حلم بطفولته بمرهم يدهن جسمه فيه ومن ثم يختفي عن الأنظار، وحين كان يزور براغ بفترات متقطعة بعد نهاية الشيوعيَّة كان يزورها وهو متخفٍ بلحية، والمبيت في فنادق بعيدة وغير معروفة وبأسماء مستعارة. ويتعمد السريَّة، مما جعل بعض الصحفيين يلاحق تاريخه، وفعلًا عثر سوسيولوجي شاب يعمل على دراسة دكتوراه في المرحلة الشيوعيَّة اسمه هاردياك على محضر سري يذكره بالاسم وبصفته كشاعر وأستاذ جامعي وهو يشي بأحد المعارضين قبل هروبه خارج البلاد، ليتسبّب هذا البلاغ بالحكم على المعارض بالإعدام لكنَّ الحكم يخفف إلى سجن مدته 22 عامًا، رد ميلان كونديرا بشكل مقتضب وقال إنَّ هذا هو نوع من الاغتيال لكاتب ولم ينشر بعد ذلك سوى روايته الأخيرة التي عدها النقاد رواية فاشلة”.
ويضيف بدر، “في عام 2012 دُعيت إلى معرض الكتاب في براغ، وأردت أن أجعلها فرصة للبحث الميداني عن كاتب طالما أحببت كتاباته، فالتقيت بيان هافاك الذي كتب كتابًا بـ900 صفحة عن حياة كونديرا في جيكوسلوفاكيا قبل هجرته إلى باريس بعنوان (الحياة المستحيلة) لم يترك صرة في حياة كونديرا لم يفركشها كما قال في كتابه. وأغلب الكتاب التشيك يأخذون على كونديرا تلفيقه لسيرة حياته، ويعدون معارضته للحزب الشيوعي في الخمسينيات ليست سوى مزحة في روايته (المزحة) هو شيوعي أصيل، وبعقليَّة أمنيَّة وشاعر مؤمن مثل بطل روايته (الحياة في مكان آخر) وقصائده التي كتبت عن غاغارين وعن يوليوس فوتشيك الشيوعي الذي ذكر في مذكراته “تحت أعواد المشانق”، أما تحولاته فقد جرت لاحقًا في بداية الستينيات والتي أدت إلى كتاباته الأساسيَّة غراميات مرحة عام 1963، والمزحة في العام 1968. كما قلت سابقا إنَّ الموضوعين الأساسيين عند كونديرا في كل كتاباته هما الخيانة والتلفيق، وهو ما كانت تدور عليه حياته في الواقع في روايته خفة الكائن التي لا تحتمل، إنَّ الحياة لا يمكن عمل مسودة منها وبالتالي تفلت من التحرير وهو أمر لا يمكن احتماله، ما أراد أنْ يفعله طوال حياته أنْ يعيد حياته على الورق لكن أزمة الضمير التي رافقتهُ منعتهُ. أظن أنَّ المحضر السري قد حرر كونديرا تمامًا. لأنه قام فعل ما لم يفعله من قبل، إذ نتجت عن مقابلته لرئيس الدولة التشيكيَّة استعادته جنسيته التشيكية، وموافقته على تسلم جائزة كافكا وهي أكبر جائزة أدبيَّة في جمهوريَّة التشيك، إلى جانب نشر كتبه في بلاده، ربما سيرة هذا الكاتب الثوري هي التي جعلتني أحبُ كونديرا.”
ومن بين قراء الجيل الجديد الناشط ماجد حرب الذي أختار كونديرا ملهمًا، يرى “مع أنَّ قلمَ ميلان كونديرا قد جفّ، وهذا مؤسف جدًا، ولكن يصعب موته كحالة أدبيَّة وفلسفيَّة باقية لعشرات الأجيال وربّما أكثر. وأعتقد هذا يعود لأنَّ كونديرا جسَّد حالة استثنائيَّة من وضع المفارقات والمقاربات في آن واحد ممّا يفتح له الباب ليخترق خصوصيَّة عقل القارئ، وبدأ هذا معه من أولى أعماله (رواية غراميات مرحة). وما قد يجعله أكثر تميّزًا هو صبغ تلك المفارقات بالفلسفة دائمًا وكأنه ينزل الفلسفة من رصانتها والتزامها لتكون للجميع في قطعة فنيَّة كتبها كونديرا، ويشهد على ذلك آخر أعماله (حفلة التفاهة) التي تختصر جزءًا كبيرًا من الفلسفة الكونديريا، ألا وهي أنَّ الطريقة الوحيدة للصمود في وجه هذا العالم هي ألّا نأخذهُ على محمل الجدّ، فنرى كونديرا هنا يشيرُ بقوّة عبر إحدى شخصياته إلى ثقل الوجود للإنسان في عالمٍ ضيّق الاختيارات. وطالما حافظ كونديرا على حسّه الموسيقي الفني في كونه موسيقيًّا أيضًا، وهذا ذكّرنا فيه بكتابه (فن الرواية)، إذ قال إنَّ الرواية العظيمة تشبه المقطوعة الموسيقيَّة البوليفونيَّة الّتي تتألّف من مجموعة نغماتٍ منسجمةٍ ومترابطة على نحوٍ تام.”