محمود نجم الدين المعمار
يتضح لأي متابع وملاحظ لمشهد الحرب الروسية الأوكرانية التداخلات في هذه المنطقة الجغرافية المهمة وجوارها، وستستعيد ذاكرته أن روسيا أنكرت أي علاقة لها بما حصل في شبه جزيرة القرم في سنة 2014 واستطاعت ضمها بفضل الفصائل الموالية لها، وأنكرت دعم الانفصاليين في شرق أوكرانيا في إقليم دونباس، وأعلنت اعترافها باستقلال دونتسيك ولوغانسك، واعلنت عدم تواجدها في ليبيا وسوريا ومالي وجمهورية افريقيا الوسطى والسودان، إلا أن الجميع يعلم بنشاط مرتزقتها، فلم تتخذ موسكو هذا الأسلوب المواري في بسط نفوذها للإجابة على هذا السؤال، يجب أن نعلم أن موسكو تعتبر نفسها من بين دول الاتحاد السوفيتي الوريث الشرعي لهذا الاتحاد وأن الغرض، الذي من أجله إنشاء حلف شمال الأطلسي سنة 1949 هو الحد من توسع الاتحاد السوفييتي، باتجاه أوربا الغربية بعد الحرب العالمية الثانية، والذي رد عليه الاتحاد السوفيتي بعد ست سنوات بانشاء تحالف عسكري خاص به، متكون من دول أوربا الشرقية اطلق عليه حلف وارسو نسبة إلى عاصمة بولندا، المكان الذي عقد فيه الاجتماع. وبعد تفكك الاتحاد السوفيتي توالت خسارته لضيعاته وتحول كثير من دول الاتحاد السوفيتي المنحل إلى المعسكر الغربي بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية، الامر الذي بدا يثير مخاوف موسكو من اتساع نفوذ الحلف في أوربا الشرقية لتضيق الخناق على روسيا الامر الذي جعلها تتخذ مواقف موارية تتستر بها عن الإفصاح عن نواياها فلجات موسكو عبر مليشياتها، التي تعتبر فاغنر اقواها وأكثرها شهرة لمحاولة انقلابها على سيد الكرملن، فاثرت موسكو أن تمد نفوذها إلى دول الجوار عبر أذرع لها داخل محيطها الإقليمي المقربين من الغرب كجورجيا وأوكرانيا كسياسة متبعة من الكرملن لبسط نفوذها على دول الجوار، وإضعاف حكوماتها وخلق مناطق عازلة تحمي حدوده من اقترب الناتو، خصوصا بعد أن أدرج الحلف في سنة 2020 ثلاث دول طامحة للانضمام إلى الحلف، وهي كل من البوسنة والهيرسك وجورجيا وأوكرانيا. لكي يفهم القارئ جدية مخاوف روسيا من المغازلات التي يبديها الحلف لضم أوكرانيا وجورجيا عليه أن يطلع على الفقرة الخامسة من المادة الخامسة لميثاق تأسيس الحلف المتعلقة بالأمن الجماعي والدفاع الجماعي، حيث نصت هذه الفقرة على أن تتفق الأطراف على أن أي هجوم مسلح ضد أي عضو أو أكثر في الحلف سواء في أوروبا أو أمريكا الشمالية يعد هجوما ضد جميع أعضاء الحلف، وعلى اثر ذلك يتفق وحالة وقوع هجوم مسلح يحق لجميع الأعضاء ممارسة حق الدفاع عن النفس بشكل أحادي أو جماعي، بموجب المادة 51 من ميثاق الأمم المتحدة لمساعدة العضو أو الأعضاء، الذين تعرضوا لهجوم بجميع الوسائل الممكنة سواء بشكل احادي أو جماعي بما في ذلك استخدام الأسلحة لاستعادة الامن في المنطقة. وهو ما يشكل تهديدا حقيقيا لروسيا خصوصا بعد انضمام مجموعة دول مجموعة فيلينوس المتاخمة لحدودها سنة 2004
والتي تضم كل من رومانيا وبلغاريا واستونيا وسلفاكيا وسلوفينا ولاتيفيا. وهي جميعها ضيعات مفقودة للاتحاد السوفيتي، التي كانت تمثل جزءا من أراضيه وشعبه. اضف إلى هذا كله أن الهيمنة الأمريكية ونفوذها لا يقتصر على تفوقها العسكري والإقليمي بفضل حلف الناتو، وانما يمتد ليشمل أحكامها السيطرة على وسائل التبادل المالي بالنظام العالمي المصرفي سوفت وشروعها بعسكرة الفضاء، ومع تنامي مخاوف موسكو من تضخم نفوذ الولايات المتحدة وفشل مفاوضات السلام، التي خاضوها البلدان بشأن حصول موسكو على ضمانات تحريرية تضمن بعدم قبول حلف الناتو التحالف مع المناطق الحدودية المتاخمة لروسيا من جهة الغرب أوكرانيا وجورجيا، إلا أن الولايات المتحدة الامريكية أجابت بأنها لن تغير سياسة الباب المفتوح، وأن ليس من حق روسيا أن تحدد إن كانت أوكرانيا ستنظم إلى حلف الناتو أم لا، كما أن ليس من حق روسيا أن تملي علينا الخيارات فهو امر يتعلق بسيادتنا , بينما ترى موسكو بأن مسعى أوكرانيا للانضمام إلى الناتو، يشكل تهديداً وجودياً لها. وتعتقد روسيا أيضاً بأن إيصال الناتو مساعدات عسكرية إلى كييف هو دليل على أن الولايات المتحدة تشن حرباً بالوكالة في أوكرانيا. وشعرت موسكو أن عدم تحركها سينقل المعركة إلى أرضها مع خصم اكثر شراسة وضراوة من غريمتها أوكرانيا، لذلك قررت شن الحرب وقد أرغمت على هذا الخيار.