علي المرهج
لا وجود لثقافة ديمقراطية من دون وعي بأهمية الديموقراطية، بوصفها سبيلا للعيش المشترك، ولا قدرة لنا على تحقيقها بغير العمل على تربية النشء الجديد وتعليمه دورها في بناء مجتمع مستقر، وهذه واحدة من مهمات مؤسساتنا التربوية والتعليمية، التي تحتاج بدورها لإدخال معلمينا وأساتذة الجامعات عندنا في دورات، ليعرفوا أهمية الديموقراطية التي لا إمكانية للوصول إليها من دون تعليم ديمقراطي.. ما تربينا عليه وتعلمنا هو ثقافة (الحزب القائد).
تعلمنا أن المعلم هو المُرسل ولا مهمة لطلبته غير تلقي ما يطرحه وكأنه نص مقدس.. عشنا في مجتمع يمنح القداسة بالمجان، في الأغلب الأعم. اتساع مساحة المقدس يحد من قدرة الإنسان على التفكير الحر، أو التفكير النقدي بصوت عال..
مجتمع تعلم على الوصاية وطاعة أولي الأمر والأب، وشيخ العشيرة والمعلم والأستاذ الجامعي وقائد الحزب وقائد الدولة.. هذه الوصاية أو «النظام الأبوي»، بحسب تعبير هشام شرابي، يشكل إعاقة أخرى وعقبة في سبيل التقدم العلمي ونمو المعرفة العلمية، لتحل الأسطرة محل التفكير العقلاني، فيصبح العقل رهين المجتمع وتقاليده وقيمه، حتى وإن كان كثير منها لا يصمد أمام المحاججة العقلانية.
مدرسة رهينة التعليم التقليدي «التلقيني»، بل وحى الجامعة، الأمر الذي جعل الجمود والسكون أمرا مرتبطا، بمجتمعنا الذي لا يُحرك ساكنًا في الغالب إلا بتوجيه من آمر يأمره.. المعلم سطلة في الصف ومدير المدرسة سلطة أعلى وكذا الحال في الكلية والجامعة، ولا يحق الاعتراض على ما يتخذونه من قرارات حتى وإن كانت غير صائبة.
نحن نعيش في مجتمع يخشى فيه المثقف عشرات الخطوط، التي سُميت حمراء ولا مناص من اتقاء الحديث عنها نقدًا، لأن بعض النقد قد يمس قداستهم المختلقة.
المشكلة الأكبر تكمن في أن كثيرا من مثقفينا العرب والعراقيين، على وجه الخصوص تساوقوا مع هذه الرؤية الشعبية للقداسة، بل فرض (الحس المشترك)، عليهم التعاطي معها والاستجابة وكأنها حقيقة مطلقة!.
في الواقع الاجتماعي الذي نعيش تحدياته السياسية، نجد هناك مثقفين وظفوا ثقافتهم لصالح أيديولوجيا أو عقيدة أو حزب ما والدفاع عنها، إما لتحقيق مصالح أو منافع خاصة، وهم الأكثر أو لقناعة أن هذا الفكر سيغير الواقع المجتمعي من حال إلى حال أفضل. وهذا برأيي واحدة من نتاجات (الأيديولوجيا)، التي يصعب علينا إنكار وظيفتها في تغيير الواقع السياسي والاجتماعي.
لقد رهنوا مصيرهم بصناع القرار وقادة الأحزاب، وجعلوا ثقافتهم أسيرة أيديولوجيا المذهب أو المقدمس، بل ورهينة الحزب، فتصور بعضهم أن حضوره الثقافي، لا يكون له كون إن لم يكن مع هذا الحزب أو ذاك، لا منظرًا للحزب، فصار تابعًا يتباهى أنه مع حزب قائد أو مذهب يقود!.
جعل هذا المثقف من وعيه أداة بيد جماعة متحزبة، وتبرع في الدفاع عن نزوعها الأثني والطائفي! وانتمى لفكر يظنه أنه صاحب الرؤية الخلاصية الحقة، وقد يكون آمن بها حقًا، ولكن الأصح أن جل من يوصفون بأنهم مثقفون من المنتمين لأحزاب أثنية وطائفية إنما هم منتفعون من الانتماء لها، أكثر مما هم مقتنعون برؤيتها الفكرية وحقانية عقيدتهم الأيديولوجية.
من الصعب تصور تلاقي (الأصولية)، والنزعة الراديكالية الاقصائية بالتصور المعروف عن الثقافة، بوصفها دعوة للفكر الحر ونزوع لكسر قيود (الدوغمائية)، فكيف يمكن أن نصف فلانا بأنه مثقف وهو لا يقبل (الآخر) المختلف؟!.
في التداول الشائع لمفردة (مثقف) في مجتمعاتنا العربية والإسلامية، إنما تحمل بين طياتها نزعة للرفض والتمرد على كل ما هو سكوني وراكد.
ميّز علي الوردي بين المتعلم والمثقف، فالمتعلم هو من تعلم علمًا ما، ولكنه بقيّ أسير (قوقعته الاجتماعية)، بينما المثقف هو الذي تعلم شيئًا من كل شيء، وتمكن من كسر هذه القوقعة أو (الأطر الفكرية) ليكشف لنا عقم التفكير الأحادي وخطل (المطابقة)، ليعمل على فهم (الإختلاف) بتعبير مستعار من عبدالله إبراهيم في كتابه «المطابقة والاختلاف».
هذه المهمة التي أناطها الوردي للمثقف وجدها علي شريعتي الأجدر أنها تناط للمفكر لأنه هو الآخذ بزمام القافلة، والمُهمة المُلقاة على عاتقه هي معرفة الطريق، والمخاطر وتعبئة الناس، والتناسق المعنوي في القافلة، وهذا هو ما تعنيه السياسة. بمعنى أن مهمة المثقف سياسية ثورية.
ميزة المثقف الحقيقي، وهذا وصف معياري لما ينبغي أن يكون عليه المثقف، أنه ينزع للحرية ويدافع عن الهوية الوطنية، ويتبنى الديموقراطية بوصفها السبيل الأمثل للعيش المشترك الوصول للمواطنة، بوصفها العامل المشترك بين أبناء الوطن الواحد من دون تمييز بينهم على أساس المكونات والأديان المذاهب والأثنيات، لأنها الضامن لتحقيق المساواة بين الجميع.