الإمام الحسين (ع).. منهاج الثائرين ضد الظلام
بدور العامري
تصوير: خضير العتابي
حرص الإمام الحسين (عليه السلام) منذ الخطوات الأولى لثورته العظيمة أن تستند على المبادئ الأساسية للدين الإسلامي، والمتمثلة بالإيمان المطلق لتقدير الخالق والتمسك بكلمة الله العليا والحفاظ على حرمة المقدسات، حيث رسم بذلك نهجاً حسينياً خالصاً، رفض أن يحيد عنه ولو كلفه الأمر حياته وحياة أهل بيته الأطهار.
كلمة الله
المحادثة التي دارت بين الإمام الحسين (ع) والوليد حاكم المدينة المنورة عندما طلب من الحسين المبايعة ليزيد بن معاوية ليقول له نحن لا نطلب منك سوى كلمة، فلتقل بايعت واذهب بسلام لجموع الفقراء ماهي إلا كلمة، ليتفجر غضب الثائر ضد الطاغوت ويلقي بكلمات لم تقل قبله ولا بعده، ومنها يقول: كبرت الكلمة، وهل البيعة إلا كلمة، ما دين المرء سوى كلمة، ما شرف الرجل سوى كلمة، ما شرف الله سوى كلمة، ليرد عليه الوليد (بغلظة) فقل الكلمة واذهب عنا، رد عليه الحسين(ع) أتعرف ما معنى الكلمة؟ مفتاح الجنة في كلمة ودخول النار على كلمة وقضاء الله هو الكلمة، الكلمة لو تعرف حرمة زاد مذخور الكلمة نوراً وبعض الكلمات قبور، بعض الكلمات قلاع شامخة يعتصم فيها النبل البشري، الكلمة فرقان بين نبي وبغي، بالكلمة تنكشف الغمة، الكلمة نور ودليل تتبعه الأمة إلى آخر الحوار، الذي أخذ يرعد في آذان الناس ويزلزل العروش التي خاف سلطانها على نفسه من قوة الحق فأمر بقتل الحسين(ع) بحجة خروجه عن طاعة الحاكم.
المعرفة الإلهية
ولو تتبعنا الأحداث زمنياً عندما رفض الإمام الحسين(ع) مبايعة يزيد بن معاوية وبدأت المخاطر على حياة الإمام تلوح بالأفق، اقترح عليه عبد الله بن الزبير البقاء في مكة واللجوء إلى المسجد الحرام، إلا أن الحسين سلام الله عليه رفض ذلك، لأنه لا يريد أن يقتل وتستحل بقتله حرمة الكعبة والمسجد الحرام، ويتساءل الباحث الإسلامي محمود نعمة الجياشي، لماذا يتحاشى الحسين (ع) أن يقتل ويراق دمه الطاهر في المسجد الحرام؟ ولماذا يرفض اللجوء إلى المسجد الحرام مع وجود احتمال بدرجة ما لأن يكون ذلك سبباً لنجاته وعدم الاعتداء عليه، بسبب صعوبة انتهاك حرمة الكعبة المشرفة على الأقل في نظر المجتمع المكي الذي يعرف من هو الحسين، وماهي حرمة المسجد الحرام؟ لكننا نجد أن الحسين (ع) يقول "والله لأن أقتل خارجاً منه بشبر أحب اليّ من أن أقتل داخله بشبر"، بالتأكيد أن سبب ذلك يعود إلى حفظ حرمة المسجد الحرام وجميع المقدسات الإسلامية، كما يوضح لنا الإمام (ع) أيضاً في هذه الحالة حتمية أمر قتله وأنه قائم لامحالة، وبهذا يقدم لنا الحسين(ع) درساً بليغاً ذا دلالات عميقة في التوحيد والمعرفة الإلهية.
المنظور الحسيني
إن نهضة الحسين وإصلاحه الإلهي الذي كان يقصده من موقفه تجاه السلطة الأموية الظالمة لا يمكن أن يكونا سبباً لاسقاط حرمة بيت الله وانتهاك قدسيته بالقتال وإراقة الدم حتى لو كان القتال دفاعاً عن النفس من جهة الحسين (ع)، وتابع الجياشي حديثه "هذا يعني أن الإصلاح الذي نهض من أجله الحسين عليه السلام وسيقدم له تضحيته الكبرى في كربلاء كان من أجل إعلاء كلمة التوحيد وحفظ حرمة الإسلام ومقدساته وعلى رأسها حرمة بيت الله والكعبة المشرفة التي تمثل رمز التوحيد عند المسلمين"، وقد تجلى هذا الأمر عندما حدد الإمام الحسين (ع) المعالم الحقيقية لثورته وقوله "إني لم أخرج أشراً ولا بطراً ولا مفسداً ولا ظالماً، إنما خرجت لطلب الإصلاح في أمة جدي رسول الله (ص)، أريد أن آمر بالمعروف وأنهي عن المنكر، وأسير بسيرة جدي وأبي علي"، علماً أن الإصلاح الذي ذكره الإمام يحمل رؤية بعيدة المدى في مستقبل الأمة التي كان الحسين (ع) يقرأه ويعرف إمكانية الوصول إليه عن طريق التضحية والشهادة.
وعلى ضوء ذلك نفهم أن الإصلاح في المنظور الحسيني لا يمكن أن يقوم أو يستند على هتك حرمة إلهية أو انتهاك مقدس سماوي، وبذلك يقدم لنا الحسين عليه السلام درساً عظيماً لجميع دعوات الإصلاح والمصلحين والثائرين ضد الظلم والفساد على اختلاف زمانهم ومكانهم إلى يوم القيامة، ليقول لهم لا إصلاح يقوم على انتهاك حرمة أو مقدس، سواء كانت حرمة بيت الله أو حرمة النفس أو حرمة العرض أو المال أو أي حق آخر من الحقوق التي شرعها الله سبحانه لخلقه، وإن فلسفة الإصلاح تقوم على حفظ الحرمات لا هتكها وصيانة الحقوق لا ضياعها.
روح الثورة
إن من أسباب استمرارية ثورة الإمام الحسين(ع) وعدها رمزاً للتحرر من جميع أشكال العبودية في كل زمان ومكان، هو استنادها على مبادئ إنسانية انبثقت من روح الإسلام، إذ يقول الأكاديمي في جامعة كربلاء الدكتور حيدر خضير "لقد حملت الثورة الحسينية الكثير من المعاني والدلالات والمبادئ الإنسانية، فهي ليست تلك الثورة أو الحركة التي حصلت أحداثها ووقائعها قبل 1400عام وانتهت بشكل طبيعي كما تنتهي غيرها من المعارك، بل هي تمثل استمراراً لخط النبوة وبها ثبات واستقامة القيم والمبادئ الإنسانية بعد أن عمل المبطلون على إزالتها، وبالتالي فهي ثورة لإنقاذ الدين وإحياء الشريعة وإصلاح الأمة الإسلامية وفق مبادئ وتعاليم الرسالة المحمدية، حيث رأى الإمام الحسين أن مستقبل البشرية يتوقف على شهادته ودمائه التي روت الأرض بالجهاد والإيثار والتضحية، لتنبت في كل الأزمنة أشخاصاً يسيرون على دربه لا يرضون بالظلم ولا يقبلون الذل، فالثورة الحسينية أزلية في استمراريتها، لأنها تدعو في أهم مضامينها إلى ضرورة وحتمية السعي نحو الإصلاح حتى وإن بلغت التضحيات ذروتها في كل زمان ومكان فهي ثورة إنسانية بكل معانيها ودلالاتها.
المعاني الإنسانية
يرى الباحثون في شؤون الثورات والحركات التحررية "أن كل قضية في هذا العالم لا تكون قادرة على النجاح ما لم تكن مبنية على أساس من المعاني الفطرية الإنسانية، بمعنى أن تكون مهتمة بالمعاني التي فطر الله عليها الإنسان مثل الحرية والكرامة ورفع الظلم والاضطهاد وغيرها، لأن هذه المعاني تمثل عنصراً ثابتاً في حياة الإنسان وتبقى معه في كل التاريخ ومختلف الظروف، ومن هنا نجد الإمام الحسين(ع) كان على قناعة تامة في أن الإنسان الذي يعيش في حالة من الظلم والاضطهاد والرعب والذل والامتهان والعبودية للإنسان الآخر أو للحجر، لا يمكنه في يوم من الأيام أن يتجه إلى الله سبحانه وتعالى أو يرتبط به ارتباطاً حقيقياً، لأنه عندما يكون عبداً لغير الله لا يمكن أن نفترضه في الوقت نفسه عبداً لله، إلا في حال تحريره من عبوديته، لذلك نجد أن مبدأ حرية الإنسان والحفاظ على كرامته من أول الأمور التي نادى بها الإمام الحسين(ع) في ثورته العظيمة، كما كانت الدعوة إلى الحرية في الخلاص من عبادة الطاغوت والخضوع للطغيان والظلم ودعوته للإخلاص في عبودية الله الواحد الأحد انطلاقاً من قوله تعالى "الذين آمنوا يقاتلون في سبيل الله والذين كفروا يقاتلون في سبيل الطاغوت فقاتلوا أولياء الشيطان أن كيد الشيطان كان ضعيفا".