ياسين العطواني
في الوقت الذي دخلت فيه البلاد موسم جمرة القيظ، بكل ما يعنيه ذلك من تجاوز درجة الحرارة حاجز الخمسين مئوية في أغلب مناطق الوسط والجنوب، مع هبوب رياح السموم الساخنة والرطبة، يرافق ذلك غياب الوسائل التي تحد من لهيب هذه الجمرة المُحرقة، وفي مقدمة تلك الوسائل، تراجع ساعات التجهيز لمنظومة الكهرباء الوطنية في بغداد وبقية المحافظات.
وهنا علينا التوقف قليلاً للإيضاح حول العلاقة الجدلية بين الكهرباء والوطنية، ومن الذي ألحق مفردة الوطنية بكل ما ترمز إليه من قيم ومفاهيم مقدسة بمفردة الكهرباء، وما تحمله هذه المفردة في الذاكرة من ذكريات مؤلمة في نفوس أهل العراق، الأمر الذي ولد حالة من التنافر بين المفهومين من حيث الشكل والمضمون.
وعلى الرغم من اشتداد لهيب ولسعات هذه الجمرة الخبيثة، لكن هناك ماهو أشد وأمر من تلك اللسعات والمتمثل بجمرات الفساد، بجميع أشكاله وأنواعه، فإذا كانت جمرة القيظ موسمية وموقتة، فإن جمرة الفساد يراد لها ان تكون أبدية ومُستعرة.
ويبدو أن هذه الجمرة ستبقى مستعرة في جسد العراق كبقاء النار الأزلية في شماله، وهذا ما يمكن إستخلاصة من خلال تصريح رئيس الوزراء الأخير والمثير، والذي جاء في سياق حديث داخل مجلس الوزراء، عندما قال: (هناك شلة من الفاسدين تنتظر الانقضاض على التخصيصات المالية المرتبطة بالموازنة المالية كما فعلت مع الموازنات الانفجارية في السنوات الماضية، ولم تترك أثراً للمواطن).
وبطبيعة الحال فإن هذا التصريح لم يصدر من محلل سياسي، أو من وزير بدون وزارة، بل جاء من رجل عاصر وخَبر العملية السياسية منذ اليوم الأول للتغير، وتسلم مختلف المناصب الحكومية، وكان ولا يزال على إطلاع تام بزواغير ودهاليز العملية السياسية، وبالتالي عندما يصدر تصريح من شخص يتولى المسؤولية الأولى في البلاد، ولديه كل هذا الإلمام بمؤسسات الدولية، بالتأكيد سيكون كلامه حجة على الآخرين، ومصدرا موثوقا لدى المراقبين والمتابعين.
ثم أن هذا التصريح يتطابق تماماً مع الواقع المُعاش، فبرغم من كل الأجراءات المُتخذة، واستحداث الكثير من الهيئات المعنية بمكافحة جائحة الفساد، لكنها لم تُفلح في أن تضع حداً لهذه الجائحة، فلا تزال آفة الفساد تنخر بمؤسسات الدولة، وتتجذر بأساليب جديدة وطرق مبتكرة، وهذا ما يمكن ملاحظته من خلال حالات الاستقدام وأوامر القبض التي تصدر من هيئة النزاهة، وبشكل يومي، بحق كبار المسؤولين في مختلف مؤسسات ودوائر الدولة، والكشف المستمر لسرقات واستحواذ على المال العام، الأمر الذي ترك انطباعاً لدى المراقبين ولدى المواطن البسيط، بأن الفساد بات هو القاعد والنزاهة استثناء.
والمُلفت هناك من يحاول الإيحاء والربط بين أمر مكافحة الفساد بشكل جذري وبين انهيار العملية السياسية، وهو تبرير لبقاء الوضع عما ماهو عليه، ولهذا بقي العراق يقبع في ذيل قائمة الدول الأكثر فساداً في العالم، حسب تقارير المنظمات الدولية المعنية بمراقبة الفساد.
ما نريد قوله إننا يجب أن نُغادر الأساليب والآليات القديمة والمعقدة في إدارة ملفت مكافحة الفساد، والبحث عن أساليب جديدة ومبتكرة للتخلص من تلك السلوكيات الخاطئة، وإجراء مراجعة شاملة للنظم الإدارية والقانونية القديمة، واستحداث نظم إدارية، وتشريعات قانونية، تنسجم مع طبيعة وحجم جائحة الفساد.
فمن المعروف أن اتشار ظاهرة الفساد الإداري والمالي في مؤسسات الدولة، قد أوقف عجلة التنمية الشاملة والمستدامة، بكل ما يعنيه ذلك من مخاطر على حاضر البلاد ومستقبله.