الماء والخضراء في خطر

آراء 2023/07/31
...

 رعد أطياف


يمكننا الحديث طويلاً عن السياسات المائية التي تتّبعها الدول المجاورة، وعن كمية الحصص المتفق عليها. 

على سبيل المثال، في العام الماضي «كشف مسؤولون عراقيون إنشاء إيران سدوداً جديدة على روافد نهر دجلة، الذي يعتمد عليه العراق بالسقي..».

أما تركيا، فيمكن توصيف الاتفاقات التي تجري بين البلدين على أنها اتفاقات شهرية! ومع نهاية الموعد ترجع الإطلاقات المائية بالتنازل التدريجي. 

لكن، وعلى أي حال، سواء كانت دول الجوار تتحمل جزءا كبيراً مما يحدث من شح المياه وتراجع معدل خصوبة الأرض، وتقليل نسبة المساحات المزروعة، واحتمالية نزوح جماعي من الريف إلى المدينة، وبروز أعمال عنف في المناطق المهددة بالجفاف.. إلخ لكن يبقى العامل الداخلي يشكّل نصف الكارثة إن لم يكن أكثر. 

ثمة ظاهرة متجذرة في سلوكنا الاجتماعي يصعب القضاء عليها في الوقت الراهن ما لم تكن مصحوبة بإجراءات قانونية مشددة، أعني بها كميات الماء المهدورة بلا هدف أو مسوّغ سوى أنها استهتار بالثروة العامة، ذلك أنه كلّما قلّت الفواتير جنح الناس إلى الاستهتار بالثروات ومالوا إلى التذمر والازدراء بدلاً من الالتزام والشعور بالمسؤولية. 

وفي المقالة السابقة أشرت كيف وصلت العائلة العراقية إلى طريق مسدود بخصوص هدر الكهرباء، بعد أن تحولت هذه الأخيرة إلى شبه قطاع خاص، فاضطرت الأسر إلى ترشيد الاستخدام المنزلي للكهرباء، وكلمة السر تكمن بسعر بالفاتورة. 

على أي حال، حتى هذه اللحظة لم يصل المواطن العراقي إلى إجراء مماثل بخصوص هدر المياه؛ حيث ما زال الفلاح العراقي يحتفظ بأساليب الري البدائية التي تهدر كميات كبيرة لا معنى لها. 

أما بخصوص الاستخدام المنزلي فهذه قصة تصلح أن تسلّط الضوء على كارثة الهدر المتجذرة في سلوك عموم المواطنين؛ حيث ما زال الاستخدام المنزلي لا يعطينا أي مؤشر جديد بخصوص ترشيد الاستهلاك، وما زال الناس أمناء لعاداتهم القديمة، ومن ضمنها غسل واجهات المنازل بكميات مبالغ فيها، وهذا الأمر لا يحدث حتى في البلدان الغنية بالماء. وعلاوة على هذا كله ما زال العراق يستورد كميات هائلة من مبردات الماء، وبعد إحصاء كميات الماء المهدور لهذه المبردات سيتضح لك عمق الجرح النازف الذي تتدفق منه ثروتنا المائية. يمكنك أن تتجول في أزقة بغداد لترى كمية السيارات المرصوفة أمام المنازل التي تحولت إلى «كراجات» لغسل السيارات، ويحار المرء في توصيف هذه الظاهرة في بلد مقبل على كارثة مائية حقيقية. ولو واصلت السير في هذه الأزقّة فثمة ظاهرة بدأت تنتشر بشكل انشطاري في السنوات الأخيرة، أعني بها انتشار كراجات الغسل في الأحياء السكنية. وعادة ما تطل هذه الكراجات على الشارع الخدمي للحي السكني، الذي تحول إلى ساقية كبيرة بفعل الماء المهدور لغسل السيارات. وعلينا الآن أن نسأل هذا السؤال: لماذا يا ترى يتصرف المواطن بهذه الطريقة الكارثية وهو يعلم أن بلده مقبل على كارثة مائية حقيقية وأن50% من مساحات البلد الزراعية مهددة بالجفاف؟ الجواب ليس غامضاً على الإطلاق: أنه غياب الشعور التام بالمسؤولية في بلد لا زال فيه سعر فاتورة الماء برخص التراب، فيضطر الناس للعبث في ثروتهم الطبيعية بانعدام مطلق للمسؤولية . طالما لا توجد إجراءات رادعة لتغيير طرق الري البدائية، وزيادة فاتورة الماء، وإغلاق كراجات الغسل المنتشرة في الأزقَة السكنية، ومنع استيراد مبردات الماء- بشرط اكتمال ملف الكهرباء- ومن ثمّ، إجراءات سياسية حازمة مع دول الجوار، فنحن مقبلون على كارثة حقيقية. ولا ننسى ما سجلته لنا الوقائع التاريخية لوادي الرافدين؛ ثمة ممالك اختفت عن وجه الأرض نتيجة لتغيير مسار الأنهار، فما بالك بالجفاف؟