سناء الوادي
في برقيته الطويلة التي أرسلها عبر التلغراف إلى وزارة الخارجية الأمريكية، أنبأ جورج كينان الدبلوماسي الشهير، والذي كان سفيراً لواشنطن في الاتحاد السوفياتي أثناء ولاية الرئيسين ترومان وستالين، قائلاً بعدم توقع السوفييت باستمرار التعايش السلمي الدائم مع الغرب، وكان ذلك بالتحديد عقب انتهاء الحرب العالمية الثانية، وما تلاها من بداية للحرب الباردة بين معسكري الشرق والغرب.
إنَّ من أهم الأفكار التي طرحها كينان في برقيته كانت حول الشعور الروسي الغريزي بعدم الأمان، ونتيجة لذلك فهم مرتابون بشدة من جميع الدول الأخرى، ولا يمكنهم العثور على الأمن والأمان، إلا من خلال التدمير الكامل للقوة المنافسة، وسيظلون في سعي دائم لإضعاف قوّة وتأثير القوى الغربية على الشعوب المُستَعمَرة أو المتخلفة أو التابعة.
لذلك كان تحليل كينان أحد أكثر الأسس التي أثّرت في سياسة الاحتواء التي انتهجتها أمريكا خلال الحرب الباردة، حيث ركّزت على التلويح باستخدام العنف تارةً والدبلوماسية الناعمة تارةً أخرى، إلا أن الاصطدام الفعلي غير المباشر بين الدُّب الروسي والعم سام في الساحة الأوكرانية، لربما كان المفتاح لشهية موسكو لإشعال المواجهة مع الغرب في أكثر من جبهة وعلى أكثر من صعيد، لذلك يعدُّ التوجه الروسي نحو الشرق الأوسط والدول العربية والقطب المتجمد الشمالي هو طعنة في الخاصرة الأمريكية، حيث تعتبر هذه البقع مناطق نفوذ حيوية لها.
وضمن هذا السياق تندرج القمّة الروسية - الإفريقية التي انعقدت في السابع والعشرين من تموز أي منذ عدّة أيام في سان بطرسبرغ، حيث كان قادة القارّة السمراء في ضيافة الرئيس فلاديمير بوتين للمرة الثانية بعد العام 2019م في أجواء وديّة تحمل رغبة الطرفين، بتعميق الشراكات الاقتصادية التي قد تنهض بالدول، التي أنهكها الفقر والتخلف والحرب والنزاع، وفي الحقيقة فإن بوتين أبدى استعداده لإمدادها بالحبوب والقمح الروسي مجاناً لإرساء الأمن الغذائي فيها، ناهيك عن توقيع اتفاقيات لتطوير التعليم والصحة، وكذلك تطبيق تقنيات زراعة جديدة ستحقق لها الاكتفاء الذاتي، بل وتغدو من البلدان المصدِّرة.
مما لاشك فيه أن ذلك اللقاء مع القارّة الغنية بكنوزها وخيراتها والفقيرة جدّاً، جرّاء السرقات الاستعمارية والاستغلال لشعوبها، يحمل في ظاهره الاتفاق والشراكة على الجانبين الاقتصادي والاجتماعي، بيدَ أنّه وفي العمق هو سياسي بالدرجة الأولى، فهو يضرب منطقة نفوذ أميركا والغرب في أفريقيا، فيقوم الروسي بفتح ذراعيه على مصراعيها ويهيئ الحضن المريح والبديل الناجع والمفيد لتلك البلاد، وتعميق وجوده الجيوسياسي فيها، وفي ذلك ربما تجد موسكو بديلاً عن الأسواق، التي فقدتها فتزيد من صادراتها من الأسمدة ومواد الطاقة والغاز وغيرها.
في الواقع يتقاطع التفكير الروسي مع الإفريقي في أنَّ عدة دول من هذه القارة خلا تلك التابعة لجهات خارجية، تسعى لإنهاء الهيمنة الغربية على مقدراته ونهب ثرواته، مقابل الفتات التي لا تغني ولا تسمن من جوع، فقد تزامن حدوث انقلاب في دولة النيجر مع انطلاق فعاليات القمة، والتي كانت قد أومأت فرنسا لرئيس النيجر بعدم الذهاب لموسكو، ومن الجدير بالذكر أن فرنسا تستورد اليورانيوم من هذه البلد، فتنير به سبعين بالمئة من كهرباء فرنسا، ناهيك عن أنها تعتبر آخر معاقل باريس في أفريقيا، بعدما خرجت بوركينا فاسو ومالي والجزائر من عين سيطرتها، وهذا ما عبّر عنه الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون بالقلق الشديد ووصفه بالخطير لفرنسا.
في كلِّ ما سبق وبالعودة لحديث جورج كينان، فإن كل المؤشرات تدل على بداية مرحلة جديدة من الحرب الباردة بين العملاقين الشرقي والغربي، وسنشهد تحت هذه المظلة صراعا شرساً على مناطق النفوذ لكلا الجانبين، فإلى أيّ مدى يكون وصف بوتين لهذا التوجه نحو الدول العربية والإفريقية بأنه ضرورة لتعدد القطبية العالمية وبداية النهاية لعهد القطبية الأحادية، وهل يريد فعلاً قائد الكرملين المصلحة الحقيقية لهذه الدول، بينما يخفي وراء ذلك السعي الجاد والمضني للحفاظ على أمن روسيا، وهو ما يندرج في صلب العقيدة الروسية منذ الأزل، والتي تتمثل بالهجوم من أجل الدفاع كما أسلفت في بداية المقال؟.