تجوالٌ في فلسفة التاريخ ورهان المعرفة

ثقافة 2023/08/01
...

 باسم عبد الحميد حمودي

في 23 شباط 2013 سُمِّيَ واحد من أكبر ميادين باريس باسم (بول ريكور) احتفاءً من بلدية باريس بعيد ميلاده المئوي الأول، إذ ولد ريكور، الفيلسوف والمفكر البارز في ذات اليوم عام 1913 في  فاليناس- شارنت وتوفي في شاتيناي- ما لايري في 20 مايس 2005.  قتل والده في معركة المارن ضد ألمانيا في الحرب العالمية الأولى، وتوفيت والدته وهو في الرابعة من عمره فكفلته الدولة باعتباره (ابن شهيد) ورعت تعليمه حتى حصل على الدكتوراه في الانسانيات، ودخل الجامعة أستاذا منظرا للسانيات ونظريات التأويل اعتمادا على منهجه في التحليل النفسي، أضحى عميدا لكلية الآداب الرئيسية في السوربون حتى تخلى عن العمادة عام 1960 بعدما أرهقته ثورة الطلبة الشهيرة في ذلك العام وهو يعالج ذلك الانقسام الشهير بين الاساتذة بين سارتر ودي بوفوار وأضرابهما واليمين الجامعي، متفرغا للدرس الفكري.ويحلل د. اليامين بن تومي فكر ريكور الـتأويلي في دراسته (دينامية الفهم والتأويل) المنشورة في كتاب (فلسفة التأويل) الذي اصدره (منبر العقل) في اتحاد الأدباء العراقي- الكتاب 3 عام 2023 باشراف د.علي عبود المحمداوي، ود.إسماعيل مهنانة بالقول بتجاوز الـتأويل لدى ريكور العائق الميثولودجي بسعيه الى إعادة بلورة مفهوم الاتية شرط أن يبتعد الدارس عن النقد الذي قدم للكوجيتو الديكارتي الشهير: (أنا أفكر إذن أنا موجود) وصولا الى فكرة فصل مفهوم الذات عن مفهوم الانا (الهوية بمعنى الذاتية- الهوية بمعنى التماهي) والتماهي هنا تعني (امتلاك خصائص ممتدة للزمن)، ويكون (النص) بالمفهوم الريكوري أنموذجا للمباعدة في التواصل.يوضح اليامين بن تومي نظرية النص عند ريكور في  كونها تنتظم  في إشكالية المباعدة في خمس ثيمات (ص46) هي: (إنجاز الكلام كخطاب، إنجاز الخطاب كأثر مبين، علاقة الكلام بالكتابة في الخطاب وفي آثار الخطاب، أثر الخطاب كانعكاس لعالمٍ ما، الخطاب وأثره كوسيط لفهم الذات).ويعد ريكور الباحث البارز الحاصل على جائزة بلزاك 1999 بعد عدد من الدراسات والمحاضرات التي أهلته لأن يكون منظر التأويليَّة البارز عبر كتبه الأساسية: نظرية التأويل - صراع التأويلات- التاريخ والحقيقة - الزمان والسرد - التاريخ والحقيقة الزمن والحكي وغيرها.دعا ريكور في كليات فكره الى التحليل الموضوعي للخطاب منفتحا على الـتأويلات المتعددة مؤكدا في كتابه (خصوصا والذي أسماه (صراع التأويلات) على قصور البنيويَّة في افتراضها المعنى السطحي للمادة موضع الاشتغال الفكري والتفسير. هنا يأخذ بحث الأستاذ الدكتورميلود بلعاليه دومه (فلسفة التاريخ ورهان السرد عند بول ريكور) بتلابيب تلك العلاقة المرهقة والمنطقيّة بين التخييل السردي والتاريخ  التخييلي الواقعي، ذلك أن النص الفلسفي تاريخيا يتنافى مع مستوى (معقولية) الفلسفة التي تنتج خطابها كفكر مستقل حمل في ثناياه قرارا بمنع استخدام لغة السرد، ذلك أن عليه (أن يتخلى عن كل سرد للقصص أو الحكايات) حسب هيدغر. يؤكد د. دومه في بحثه هذا أن (الفلسفة) لدى أفلاطون ولدى هيغل (يجب الأ تكون ضربا من الحكي) وعلى (ضرورة الفصل بين اعتبار الموجود من الناحية السرديّة، وبين إدراكه في وجوده الحقيقي) بمعنى أن على ِالفيلسوف الا يحكي قصة والا تعتبر مقولاته جزءا من (سرد) و (حكي). ظاهر الأمر أن الفلسفة باعتبارها كوجيتو معلوماً لا علاقة لها بالسرد التخييلي موضع البحث.  في مشروعه الفلسفي المهم المتمثل في البحث بين الزمان والسرد، يدرس ريكور عملية تنشيط وتفعيل الفكر الفلسفي في التاريخ، بدراسة التاريخ ضمن عقلانيّة سرديّة تتثبت من تجربة الفلسفة الحديثة كونها (طافحة في السرد)، بدراسة النص التاريخي الخاضع لعدة تأويلات فلسفيّة ودراسة الفلسفة كنص سردي مبني على مختلف الـتأويلات، إذ تتم عملية (ردم الفجوة الهائلة بين التاريخ والتخييل) أو (بين واقع التاريخ ولا واقع التخييل) باشتغاله (ضمن تحليلات الاستاذ دومه) على (ما أصطلح عليه بالتقاطع بين التاريخ والقصص).إنَّ هذا الدرس الذي يدرس التاريخ كمشروع فكري فلسفي والسرد كفكر يتنشط فلسفيا وتاريخيا، يجعل من عملية الـتأويل للنص الفلسفي –التاريخي – السردي تدخلا في مباهج فكريَّة تحليليَّة هائلة النتائج تتمثل في خروج التاريخ من درس الواقع المرسوم تاريخيّاً كأحداث الى بنية سرديّة فلسفيّة، ودراسة الفلسفة كفكر سردي نشيط عقلا، فضلا عن فتح آفاق واسعة في تحليل الخطاب الفكري –التاريخي – السردي، لا باعتباره فكرا كليَّا بل فكر منفتح على مختلف التأويلات في الكوجيتو الجديد المنفتح لبناء التاريخ سردا.. هل أقول: (والسرد فلسفة وتاريخا)؟ قد يبدو ذلك خلطا دوغماتيا ومتسرعا لكنه لايتماهى مع انفتاح برنامج التأويلات في فكر الفيلسوف العظيم
بول ريكور.