جاسم خلف الياس
في كتابه (مديح القارئ السيئ) يحدد مكسيم ديكو للقراءة بشكل عام وظيفتين، الأولى تتعلق بتأويل النص، والثانية تتعلق بفعل القراءة المحسوس. أما تحديده للقراءة بشكل خاص فقد حددها بالقراءة التي لا تؤول النص حسب ما يريد، أي لا يتبع فيها القارئ سواء في أفكاره أو انفعالاته وعواطفه المنطق الداخلي الحميم للنص، بل يتبع القارئ سلوكيات غير نمطية قادرة على التفاعل مع تحيزاته ورغباته وافتراضاته.
قراءة لا تقتصر على ما يركّب القارئ في ذهنه من التفاعل الذي يقود إلى التقمص والتماهي، قراءة مغايرة، جريئة، هدفها التدخل في النص والتفاعل - بواسطة مهارات التفكير النقدي- مع التحيزات التي تتجاوز نمطية فهم النص وتأويله. وهنا تقتحم الأسئلة منطقة هذه القراءة، ومنها: هل (التأثيم القرائي) وجهاً من أوجه هذه القراءة؟ وما نقصده بالتأثيم القرائي هو تقمص الأفكار والسلوكيات الواردة في النص أو التماهي معها. وكيف نتعامل مع (إدانة القراءة) في ضوء القراءة النمطية على أساس خضوعها للفهم والتفسير؟ وهل تعد قدرة القارئ في توظيف الموارد المعرفية التي يمتلكها غاية في كشف ما يحرص عليه التفكير الإبداعي أم وسيلة - في كل قراءة - مهمتها خلق بكارة جديدة لكل قراءة؟ وما علاقة الذات بالموضوع في هذه القراءة؟ ولو افترضنا أن جدليات الحضور/ الغياب في جسد الخطاب تعد رهانات للمرئي في التشكيل، وافتراضات للمخفي والغائر والمغلق في التدليل، فهل هذه الجدليات ذات أهمية في سوء القراءة التي اعتمد عليها التقويض أم في القراءة السيئة التي نحن بصدد توصيفها؟ وإذا كان المعنى في (التمركز المنطقي) يحافظ على وجوده القار في النص، وإن الدلالة في التشتت تبقى تمارس تمرّدها باستمرار، فهل نستطيع أن نستعير صفة أخرى لهذه القراءة؟ كأن تكون القراءة تفكيكية بوصفها قراءة لها أهدافها الخاصة، منها: تجاوز قصدية المؤلف في المعنى، فـ (لا يوجد شيء خارج النص) أي لا توجد مرجعية ثابتة خارج النص يمكن أن نحيل إليها المعنى للوصول إلى المعنى الحقيقي، ومن ثمّ فأيُّ قارئ للنص سيفهم دلالة خاصة به، وهنا تنفتح أبواب النصوص أمام رؤى متعددة، فتتشتت النهايات التي لا تعرف النهايات؛ لأن الوصول إلى النهاية ينافي مبادئ التفكيك النصي، ويتمسك بنسف الحدود القائمة بين النصوص، ويعوّل على التشكيك في القيم والثوابت. هذه الأسئلة وغيرها، سوف نركّز في طرحها – بشكل غير مباشر- على المعين الفكري الذي يزود القارئ بعلاقات مرئية ومخفية في الآن نفسه، ولكي يحقق القارئ سعادات القراءة، يجب عليه أن يشكّل وعياً في مواجهة وعي آخر، وما هذا الوعي إلا نتاج المعرفة بكل تشعباتها. وبهذا نكون أمام ثلاثة عناصر تسهم في تحقيق هذه السعادة، وهي: القارئ/ المعرفة / النص.
ولو رجعنا إلى الملامح النقديّة العربيّة القديمة، وتأملنا أوليات الفعل القرائي فيها، لاستوجب منا الوقوف عند طبيعة الشروط المؤسسة لذلك الفعل، وأشكال توظيفه، وتداوله في فحص أركيولوجي يستند إلى المدوّنة المعجميَّة العربيَّة التي تخلو من الإشارة ولو هامشيَّاً إلى الاستعمال الذي يمكننا أن ننعته بأنّه اصطلاحي، سواء أكان هذا المصطلح في المتن الشفوي الذي أسس للفعل القرائي قبل عصر التدوين، أو في المتن الكتابي الذي أضاف للفعل القرائي آفاقاً جديدة بعد عصر التدوين وتحولاته العميقة. وفي ظل هذه الآفاق والتحولات سعى القارئ الى التفكير في النصيَّة التي تتعالق فيها الأقوال الأدبيَّة مع كل ما يرتبط بأصحابها ومتلقيها. وعلى هذا الأساس فعّلت نظرية القراءة مفهوم القراءة في الثقافة العربية الحديثة الذي تحقق عبر الانفتاح على الأنساق الثقافية الوافدة من الغرب، ذلك الانفتاح الذي شكل قطيعة على مستوى الأفكار والبنيات في ضوء الأسس النظرية والإجرائيّة التي برّزت التمهير القرائي للأنواع الأدبية والفنية.
إنَّ المناهج النصيَّة (البنيوية، السيميائية، التفكيكية...... وغيرها) التي تمثلت في (سلطة النص) عبر سؤالها الفلسفي (كيف صار النص الأدبي أو الفني طريقة ووجوداً في العالم) استطاعت أن تزيح المناهج السياقية (التاريخية، الاجتماعية، النفسية) التي تمثلت في (سلطة المؤلف) عبر سؤالها الفلسفي (كيف صارت الذات المبدعة نصاً أدبياً أو فنياً)، ولا سيما بعد أن صارت قيم الأدب الجمالية والأخلاقية والمعرفية مرتبطة بالعصر الذي ينتجها أولاً، وبالطبقة التي تعبِّر عنها ثانياً، ولكنها - أي المناهج النصيَّة- لم تصمد أمام سلطة ثالثة، وهي (سلطة القارئ) التي لا يمكن للهوية الأدبية والجمالية أن تتحقق ما دامت سلطة القراءة غائبة عنها، أي ما دامت معلقة في حيز القوة من دون تدخل القارئ لتحقيقها، فهي لا تعترف بالقراءة التفسيريَّة ولا بالقراءة التقمّصيَّة للنص، والنص حسب هذه السلطة مجرد علامات لا ترتقي إلى درجة الأدب ما لم يباشر القارئ ممارسة القراءة الأولية فالتأويلية فالمتدبرة حسب تعبير الناقد محمد بن عياد. والمتدبرة أقوى أنواع القراءة وأكثر جرأة من غيرها، وهي تعمل على تجاوز الممارسة القرائيّة التي عدّها النقد الحداثي مقياساً لتطور النوع الأدبي بحسب المعايير التي يحملها القارئ عبر قراءاته التي تتجاوز تلك المعايير الشكلية والموضوعاتية، وهنا سوف تتشكل لدينا قطيعة نوعية، وهذه القطيعة هي التي أطلق عليها النقاد الغربيون (كسر أفق التوقع) فليس من مهمة القراءة التي تتماهى مع مضمون النص تشخيص خيبة القارئ في مطابقته المعايير السابقة مع المعايير التي اعتمدت في تطوير ذلك النوع، إلا أنّ هذه القطيعة سوف تغرر بالقارئ، وتغويه في البحث عمّا هو مفاجئ ومدهش، وفي هذه الحال لن يلعن القارئ إقصاء (المسافة الجمالية) في القراءة النمطية التي تلغي كل التقاطعات بين القارئ والنص فحسب، وإنما سيعمل على كشف أقوى التفاعلات التي تجعل من شبكات الدلالة فخاخاً لاصطياد ما هو مشفّر، ومحتمل، وقلق، ومؤثث بشحنات لا تأبه بالمهادنة والخمول، وتبقى متمردة على مدخلات الدلالة ومخرجاتها، وبهذا تمنح القراءة المتدبرة القارئ حرية الحضور لمعرفياته وإمكانياته، من دون غياب ما يخفي النص من دلالات سواء أكانت خاضعة للعب الترميزي، أو التشفيري. وعلى أساس كل ما تقدم يحقق هذا النوع من القراءة سعادته وهو مطمئن من
أن السعادة لا تتحقق في الأخذ فحسب. وإنما تتحقق في العطاء؛ لأن العطاء تحقيق الذات، ولا يمكننا أن نطلق صفة السعيد إلا على الشخص الذي استطاع تحقيق ذاته! فما من ممارسة أسمى من تحقيق الذات، وعند أنسنتنا للقراءة المتدبرة نستطيع أن نقول: إنها تحقق ذاتها عبر إعطاء القارئ كل ما يحقق لذته سواء أكان بإسهامات التحريض أو
إسهامات الإغواء.