أ.د عامر حسن فياض
منذ القدم وحتى اليوم أدرك الهنود أن التغيير أو الزوال هو سمة الحياة والعالم الذي يوجد فيه الآلم والمعاناة. فقد رفضوا التشبث بعقائد الثبات والأزلية وقيمها، لذلك لا يزعجهم التغيير، فهم يواجهون أحداث المستقبل وتغيراته بطمأنينة ورباطة جأش وقليل من الحزن على ما مضى، فتميزت معظم العقائد الهندية القديمة وأولها البوذية، بروح تتقبل الحياة وأحداثها وتغيراتها عن طواعية ورضا.
وانعكس ذلك على الفكر السياسي الهندي القديم في صورة قبول بأنظمة الحكم القائمة، ورضا عن سياساتها حتى ما كان منها متعارضا ومصالح الشعب أو ضاراً بها، وقبول باستمرارها أو تغيرها فتلك هي سنة الحياة وطبيعتها، التي لاتعرف ثباتاً أو استمرارا أزلياً. إذ تمثل الثقافات الهندية طرقاً مختلفة لإدراك حقيقة السعادة الانسانية والسبل العملية لبلوغها. وهي طرق يغلب عليها طابع التأكيد على الانضباط الذاتي والنقاء النفسي والعقلي، والتجرد عن الاهتمامات المادية الحسية، أو تجنب الإفراط فيها على أقل تقدير، ولا تقوم هذه الثقافات ومدركاتها الحسية والعقلية على نواهي وأوامر متطرفة أو متشددة بقدر ما تقوم على تصورات انسانية تدرك ذاتيتها وقصورها، وتتسامح حيال تصورات الثقافات الأخرى ومدركاتها وسبلها، ما أفسح المجال أمام تبلور روح الاحترام للاختلافات الفردية في مجالات الحياة المتنوعة والاستعداد للقبول بتعايشها في فضاء ثقافي – حضاري واحد.
وقد انعكست روح التسامح هذه والقبول بالتعددية وتعايش الاختلافات في صورة فكر سياسي غابت عنه روح التعصب ونزعة اتهام الآخر بالعصيان وشق عصا الطاعة، وأنظمة سياسية فيها دور مهم للمجالس الاستشارية والمستشارين في إدراة شؤون السلطة والمجتمع وصنع قراراتها.
إذ تبدو ظاهرة العنف بتجسيداتها المتنوعة غريبة عن روح الحضارة الهندية، التي نبذت مدارسها الفكرية والفلسفية المختلفة، لا سيما البوذية منها هذه الظاهرة، فشاعت في العقل الهندي القديم مبادئ ترفض مظاهر الغضب والحقد والعنف وتدعو إلى التسامح والطيبة والشفقة، وتعدّها السبل الكفيلة بالقضاء على تلك المظاهر، والتخلص منها حتى غدت مقولة (أحبوا أعداءكم) شيئاً مألوفاً بالنسبة للفرد الهندي. لذك يسجل التاريخ السياسي للهند مقارنة بتاريخ الحضارات الاخرى غياباً نسبياً للحرب والثورات ومظاهر اللجوء إلى العنف في إطار نشاط المؤسسات السياسية، وهو أمر كان لنزعة اللاعنف دور أساسي في حدوثه.
كما شاع في الثقافات الهندية المتنوعة التأكيد على الانضباط الذاتي، وتنقية النفس والميل إلى التركيز على التخلص من كل ما هو غير نقي ومسبب للألم والمعاناة، واعتماد التأمل العقلي سبيلاً لذلك. ويمثل تنوع أشكال التأمل واختلاف أساليبه أساسا لتنمية القدرات والطاقات النفسية وتحقيق مستويات رفيعة من السيطرة على الذات والتحكم فيها، بغية رفع كفاءات الفرد الجسدية والنفسية لتمكينه من المشاركة الفعالة في النشاط الحياتي، دون وسائط من انفس زائفة ورغبات وطموحات زائلة تؤدي إلى اغتراب المرء عن الواقع وقطيعته معه. وترتب على ذلك غلبة الطبيعة الهادئة والمسالمة على الشخصية الهندية، الامر الذي انعكس بدوره على نتاجات الفكر السياسي الهندي القديم فاكتسب بدوره جانباً من هذه الطبيعة.
وقد ساعدت خصائص التسامح واللاعنف والتأمل التي غلبت على الشخصية الهندية على تبلور موقف سلوكي هندي اتسم بعمليته وواقعيته، وقدرة ملحوظة على الانغماس في نشاطات اللحظة الراهنة. فعندما يكون المرء في سلام مع نفسه ومع العالم ولا يخضع للرغبات ولا تعذبه الشكوك والأوهام، يغدو قادراً دائما وفي كل وقت على الانغماس بحرية وفاعلية في الانشطة الحياتية، لذلك لا يتشبث الهنود بتناول الطعام أو اللهو ولا يغمرهم الحزن عندما لايتاح لهم ذلك أو عندما يكون العمل شاقاً، لان ذلك جزء من طبيعة الحياة وبعض من منطقها وروحها. ويُعد التعلم من الماضي والتخطيط للمستقبل شرطان اساسيان لتحسين مستوى الحياة، ولكنهما في ذاتهما نشاطان ينتميان إلى اللحظة الراهنة، فلا ينبغي الخلط بينهما وبين العيش في الماضي أو المستقبل، الذي لم يأت بعد كما لا يمكن أن تكون هناك سعادة حقيقية في البكاء على الماضي، الذي لن يعود ولا يمكن تغييره. ويؤدي إيمان العقل الهندي القديم بهذه الحقائق وانغماسه في انشطة الحاضر الفردي إلى موقف واقعي عملي إلى اقصى حد ممكن وهي خاصية ميزت الفكر والسلوك الهنديين عموماً وما يتعلق منهما بالجانب السياسي تحديداً.
وهكذا يمكن استنتاج بأن وجود السلطة السياسية وشرعيتها ووظائفها وآليات عملها وتداولها، تبدو بمجملها مقترنة بمدى قدراتها على الوصول بالفرد الهندي إلى مرحلة النرفانا، وطالما أن الوصول إلى النرفانا هدف عام، يرغب كل افراد المجتمع في بلوغه، فضلاً عن ان سلطة سياسية تبتغي الوصول بالفرد/ المجتمع إلى الخير والسعادة، لا بد لها في ذلك من أن تفرض على أفراد مجتمها واجبات فردية وعامة، مثل كبح جماع غضبهم، وقول الحق، ومسامحة الآخرين، والسلوك النقي، وتجنب الشجار، والتصرف على نحو عادل، وعادة ما يضاف إلى هذه القائمة اللا أذى وكبح جماح النفس، وهو ما يحقق في النهاية مصلحة الكل ورفاهية المجتمع، الامر الذي تتحمل السلطة السياسية المسؤولية الاساسية عنه. إن شعب بهذه المواصفات لايزعجه التغيير، ودون هذه المواصفات فإن التغيير يؤدي إلى الفوضى.