روحي الخماش أسهم بتطور الموسيقى العراقيَّة ووثقها

ثقافة 2023/08/02
...

 سامر المشعل وكاظم لازم 

اعتاد العراقيون لسنوات طويلة، أن يستقبلوا إفطارهم خلال شهر رمضان بابتهال"يا إله الكون إنا لك صمنا" للموسيقار الراحل روحي خماش بصوت فرقة الانشاد العراقية، حتى بات هذا الابتهال جزءاً من طقوس شهر رمضان، يطرق أسماعنا بمهابة وبهجة حال الايذان بتناول الافطار. والفنان الملتزم هو الذي يوظف الفن في خدمة غايات نبيلة وسامية، وهذا ما فعله الموسيقار روحي الخماش عبر المئات من أعماله الموسيقية، كالموشحات والابتهالات والاناشيد الدينية والدنيوية والوطنية.روحي الخماش الفلسطيني الذي ولد في نابلس وجاب العديد من البلدان العربية، ليستقر به المقام في العراق فأحب العراق وأحبه العراقيون ومن بغداد بزغ نجمه، حتى بات معروفا بالعراق أكثر من فلسطين.

فوجد في الوسط الفني العراقي التقدير والاحترام لمقدرته في الموسيقى، وبالمقابل لم يبخل الخماش على تقديم المعرفة والعطاء الفني.

سوف نأخذكم هذا اليوم عبر صفحة موسيقى لنتجول بأهم المحطات والانجازات الموسيقية والتلحينية والمعرفية والتربويَّة للفنان الكبير روحي الخماش.


موهبة مبكرة

كان "روحي" مولعاً بالفن منذ نعومة أظفاره محباً للموسيقى حيث كانت تسري في عروقه، فكان يؤدي الترانيم والمعزوفات وأناشيد الصباح بإجادة تامة أمام أساتذته وزملائه في المدرسة، كان أبوه ينمي موهبته ويصقل ذكاءه ويشجعه بتطوير قدراته، فقد اشترى له آلة عود صغيرة وهو لم يبلغ من العمر سوى 6 سنوات، وبالفعل تعلق بعوده وبدأ يترجم كل ما يجول بخاطره من موسيقى على عوده بشوق وولع كبيرين، وكان أحد أقربائه يشرف على عزفه ويتابعه فنياً هو أحمد عبد الواحد الخماش الذي درس الموسيقى في تركيا.

لقد تمكن "روحي" خلال عام واحد من إجادة عزف بشرف عاصم بيك وبشرف رست لطاتيوس أفندي، وبعض الدواليب القديمة وسماعي بيات قديم لسامي الشوا، وعندما أكمل الابتدائيه ذاع صيته في كل نواحي وأرجاء مدينته، وعرف باقتداره وأشتهر بذكائه.

في العام 1932 أقيم المعرض العربي في مدينة القدس، وكانت فرقة الفنان سامي الشوا من بين الفرق الفنية المدعوة لهذا المعرض، وقد كانت المصادفة أن استمع الفنان سامي الشوا إلى غناء روحي الخماش في دور " أحب أشوفك" للفنان محمد عبد الوهاب، فأعجب بفنه وشجعه على مواصلة التدريب وممارسة العروض الموسيقيه، إذ كان فوزاً معنوياً له ونصراً كبيراً في ميدان الفن والموسيقى آنذاك.

والمصادفات الجميلة أن الفنان عبدالوهاب كان قد قدم إلى فلسطين آنذاك فكان من حسن حظ روحي الخماش أن غنى أمامه وكشف عن موهبته الموسيقية في عزفه وغنائه، فأعجب الفنان محمد عبد الوهاب ببراعته وموهبته الكبيرة، فأهدى إليه هدية رمزية عبرت عن عظيم أعجابه بهذا الطفل الموهوب، والشيء نفسه حصل له مع كوكب الشرق أم كلثوم التي جاءت هي الأخرى إلى فلسطين لإحياء حفلة على مسرح " أبي شاكوش" في يافا، حيث استقبلت الفنان الصغير روحي الخماش وأجلسته في حضنها تعبيراً عن اهتمامها به، واعتزازا لموهبته وهو في هذه السن الصغيرة، وطلبت منه أن يغني فغنى مونولوج " سكت والدمع تكلم " للموسيقار القصبجي، فأعجبت به كثيراً وتنبأت له بمستقبل فني 

زاهر.


الملك غازي يهديه ساعته

وفي بداية العام 1935 وصلت أنباؤه إلى سمع الأمير عبدالله، الذي طلب من الملك غازي أن يدعوه إلى بغداد، فاستقبله الملك غازي، فغنى له كما غنى للأمير عبدالله من قبل وزاد عليها من الأناشيد الوطنية المشهورة، التي أثارت إعجاب الملك وحركت عواطفه تجاهه ودفعته إلى إهدائه ساعته الشخصية ومبلغا من المال، عنواناً لإعجابه به وتقديراً لموهبته الثاقبة. 

وأثناء وجوده في العراق آنذاك أقام عدة حفلات لطلبة المدارس مجاناً بهدف ترسيخ روابط المحبة بين العرب، وبقي ستة أشهر بالعراق.

وعند افتتاح دار الإذاعة الفلسطينية عاد ثانية للمشاركة في بلاده، حيث شارك فناناً مبدعاً ومنتجاً ومقدماً لبرنامج يؤدي فيه حفلاته الغنائية لمدة سنة، وفي العام 1937 سافر في بعثة دراسية إلى القاهرة في معهد الملك فؤاد الأول للموسيقى العربية، من أجل أن يصقل موهبته ويقوّمها بالتجربة والمران والخبرة الدراسية المطلوبة. فادهش لجنة القبول بموهبته. ففي السنة الاولى في المعهد قام بدراسة ثلاث مراحل دراسية ( التمهيدية – الأولى – والثانية)، وتلقى المناهج الخاصة بها. 

وفي السنة اللاحقة تلقى دروس المراحل (الثالثة – الرابعة – والخامسة ) ودخل الامتحان النهائي، لكل المراحل الدراسية للمعهد العام 1939 م متفوقاً على أقرانه معبرا عن موهبته وعصاميته.

ومما يحسب له أن الاختبار الذي أجري له كان فريداً من نوعه، إذ طلب منه أن يقوم بتلحين قصيدة على شكل موشح خلال ساعتين من الزمن، وتدوينها وغنائها، كما طلب منه أن يقوم بتدريس بعض المواد الخاصة بالموسيقى، بدلاً من الأساتذة المكلفين بذلك عادهً، وقد حصل في نهاية الأمر على زمالة دراسية ليدرس على مقاعد جامعات إيطاليا، إلا أن ظروف الحرب العالمية حالت دون اتمام هذه الدراسة التي اضطر على أثرها العودة إلى القدس العام 1939، وعيّن رئيساً للفرقة الموسيقية الحديثة في الإذاعة الفلسطينية ليستمر في عمله حتى العام 1948 منشغلاً خلال ذلك بتقديم الأعمال الفنية الأبداعية غناءً وعزفاً وإشرافاً .


العودة إلى العراق

وفي تموز سنة 1948 حل الفنان روحي الخماش ضيفاً على العراق للمرة الثانية، لتكون محطة استقرار، عمل في وطن جديد زاخر بالمعارف والفنون والتراث، واستطاع الخماش من خلاله فعلاً أن يعمل ويبدع ويحتل موقعاً فنياً متميزاً في جميع أرجاء الحركة الموسيقية، إذ عيّن حال وصوله العراق 1948 م رئيساً للفرقة الموسيقية 

المسائية في الإذاعة العراقية. 

قام بتنظيم هذه الفرقة واستقطاب عناصر أخرى كفوءة، إذ قدم من خلال هذه الفرقة العديد من الحفلات الموسيقية والغنائية على الهواء مباشرة، وخلال هذه الفترة ذاع صيته بين أرجاء الحركة الموسيقية في العراق حتى العام 1953 م حيث عيّن مدرساً في معهد الفنون الجميلة، وبعدها اتسع نشاطه الفني عندما أسس الفرق الإنشادية والموسيقية، والى غير ذلك من العطاءات، وبقي الخماش مدرساً وقائداً موسيقياً ومؤسساً وخبيراً لمؤسساتنا 

الموسيقية .

بعد تأسيسه لفرقة الانشاد العراقية في العام 1971 وضع الخماش العديد من الألحان لقالب الموشح والتي أدتها الفرقة، وكان أول الموشحات التي لحنها هو : موشح حبيبي عاد لي وحبيبي لا تطل هجري وموشح يا هلالاً وجميعها من مقام العجم عشيران، وقد فازت هذه الموشحات الثلاثة في مسابقة الغناء العربي في تونس في العام 1976 بالجائزة الاولى بين الموشحات، التي أدتها الفرق العربية الاخرى من مصر وسوريا والمغرب والجزائر وتونس. 

كان مجموع ما لحنه الخماش من موشحات للفرقة ما يقارب الاربعين موشحاً.. إضافةً إلى تدريب الفرقة على العشرات من الموشحات العربية والاندلسية المشهور.. فضلا عن أغنيات من التراث العراقي.

ومما يذكر أن الخماش ينحدر من طبقة ريفية، إذ كان والده حمدي عباس الخماش يملك أرضا زراعية في نابلس تقدر بمئة وخمسين دونما زراعياً، ولما جاء إلى بغداد تهيأت له فرصة لشراء أرض زراعية في محافظة بغداد قضاء المحمودية، ناحية اللطيفية بجانب نهر (أبو رميل)، وفعلاً اشترى تلك الأرض تحقيقاً لدواخله القروية، وتنفيذاً لهوايته واستمراراً لنهج عائلته، وبعد حين اتخذ من هذه الأرض مزرعة واسعة شيد عليها حقولاً لتربية الدواجن والأبقار والطيور، فضلاً عن استغلالها زراعياً للمحاصيل الزراعية، وبذلك اتخذ منها محطة فنية ثانية يزورها بين الحين والآخر، وبمرور الزمن استهوته هذه الأرض، حيث انتقل ليسكن فيها وذلك في العام 1986،  ولتكون في ما بعد مصدر رزقه، مبتعداً بعض الشيء عن الوسط الموسيقي، لانشغاله في أمور أرضه 

الزراعية. 

وبقيَّ على هذه الحال حتى منتصف 1998 ، إذ فوجئ بأعراض مرض يصعب الشفاء منه، رقد على أثره في المستشفى وبقي فيا حتى وافاه الأجل في يوم الثلاثاء العاشر من شهر آب سنة 1998 ، وقد أقامت له نقابة الفنانين العراقيين تشييعاً يليق بالفنان الكبير، وبعدها تم دفنه في مقبرة الكرخ ببغداد .

لقد أحبه العراقيين وهو أحب العراق وأهل العراق فجمع بين البلدين فلسطين والعراق .. فاعتبره العراقيون ابنهم الفلسطيني، بينما كان دائماً في نظر الفلسطينيين أخاهم العراقي .. وقد اجتهدت طالبته الباحثة فاطمة الظاهر بتوثيق كل ما يتعلق بهذا الموسيقار الكبير، بناءً على طلبه في تخليد تراثه الموسيقي والغنائي، وقامت بتوثيق العديد من موشحاته وابتهالاته بصوتها وخاصةً المفقود لرفد المكتبة الموسيقية العراقية.


الدور التوثيقي

في نظرة بانورامية على مشهد الغناء والموسيقى في العراق، منذ أواخر القرن التاسع عشر وحتى الثلث الأول من القرن الماضي، يركز هشام عودة على اهتمام الخماش بالأغاني الوطنية، كأحد ورثة الرواد الذين بحثوا في المدرسة البغدادية، التي حافظت على المقام العراقي، وسحرتنا بأنواع جديدة، وقبست من الموسيقار روحي الخماش بعض فنونه، وهو القادم من مدينة نابلس الفلسطينية جراء نكبة هزت ضمير البشرية، فقد عثر الخماش على تراث غنائي وثقافي عراقي غزيرين، من هذا الإرث القصيّ والموغل في القدم، شهدت بغداد حراكا موسيقيا يمشي مصارعا بلا هوادة إرثا جاهليا فرضه استعمار شديد التخلف، لم يتخلص منه هذا الحراك، إلا بعد أن انقضى أكثر من نصف القرن العشرين.

وفي فصل لافت يتحدث عودة عن روحي الخماش فيصفه الباحث العباس على أنه من قام بتدوين المقام العراقي بأهم حدث في تاريخ الموسيقى العراقية، لما قدمه من خدمة جليلة إلى الأجيال اللاحقة. 

كما يقدمه قارئ المقام العراقي المعروف الفنان حسين الأعظمي على أنه واحد من أبرز الذين دعوا إلى تنويط المقام العراقي وتدوينه.

يفرد هشام عودة صفحات للدور الذي لعبه روحي الخماش في تطوير الموسيقى ببغداد، وكما ذكرها الباحث حبيب ظاهر العباس: "بعد دخوله إلى دار الإذاعة العراقية سنة 1948، أثار ذلك ثورة في مجال الموسيقى وعلومها"، وتتمثل في قراءة وكتابة النوط ومعرفة نظرياتها، إذ التف حوله أغلب العاملين في حقل الموسيقى، وهم مذهولون من قدراته ومؤهلاته الكبيرة وسعة مداركه، إذ كان أغلب الملحنين آنذاك يحفظون ألحانهم شفاهيا، بسبب جهلهم لكتابة وقراءة النوطة الموسيقية، ومن هنا ازدهرت الحركة الموسيقية.

ويستحضر عودة دور روحي الخماش فيقول إنه كان من أبرز، الذين لحنوا ونشروا الأناشيد الوطنية في أرجاء العراق، فضلا عن جهوده المشهودة التي بذلها في تدوين الأناشيد، حيث أصدر عدة مطبوعات بالتعاون مع وزارة التربية، وبقي أثرها واضحا كمناهج للمدارس، ويعد الفنان من أنضج وأدق الذين دونوا المقام العراقي والغناء الريفي بالنوطة الموسيقية، ويذكر عودة أن الموسيقار الخماش، وبعد جهود مضنية امتدّت إلى ثلاث سنوات حقق مع الباحث ثامر العامري كتاب "المقام العراقي والغناء الريفي"، قام من خلاله بأعظم حدث في التاريخ الموسيقي والغناء العراقي، إذ ثبت ووثق للأجيال اللاحقة طريقة قراءة المقام العراقي والغناء الريفي.


إنجازٌ فريد

ويسجل للموسيقار الخماش إنجازاته الخلاقة في هذا المجال، فقد قام بتأسيس فرق فنية أسهمت بدور كبير في حفظ التراث الفني العراقي وتطويره، ومن الفرق الفنية والموسيقية والإنشادية التي أسسها في العراق، أو كان له دور رئيس في تأسيسها: فرقة الموشحات العام 1948، التي تحوّل اسمها العام 1961 إلى فرقة أبناء دجلة، فرقة الموشحات الثانية، أو فرقة الإنشاد العراقية، وغيرها من الفرق التي تركت بصمة واضحة في مسيرة الفن والغناء والموسيقى بالعراق في النصف الثاني من القرن العشرين.

وقد ذكر المؤلف علاقة الخماش بآلة العود، إذ إنها علاقة قديمة تعود إلى سنوات طفولته الأولى، وكثيرا ما كان يفكر في تطوير أداء هذه الآلة الموسيقية التي رافقته طوال عمره، اذ اضاف للعود الوتر السابع.

وقد وصف الموسيقار علي عبدالله إضافة الوتر السابع للعود بأنه إنجاز موسيقي كبير، تفرّد به الخماش، وأهمية هذا الإنجاز أنه يفسح المجال أمام العازفين في استثمار قدر كبير من المساحة الموسيقية، ولإظهار الجمل الموسيقية بأبهى صورها، والوتر السابع يعني إضافة صوت جديد، فهو سوف يأخذ درجة من الغلظة أو الرفعة.

قال عنه الملحن الكبير زكريا احمد "أشعر عند سماع صوته وعزفه لنشوة طرب". 

كما قال عنه الموسيقار منير بشير "أشعر بالاطمئنان على الموسيقى العراقية بوجود المعلم روح الخماش". 


المصادر

"سيرة حياة الموسيقار روحي الخماش" موقع الوتر السابع الباحثة فاطمة الظاهر.

"الموسيقار روحي الخماش: سيرة وإنجازات" الصحفي هشام عودة عن دار أمواج بعمان (2015).

"روحي الخماش الذي دوّن الموسيقى العراقية" مقال للكاتب سليم النجار.