الاستبطانات الداخليَّة وتمثّلاتها في أعمال قاسم السبتي

ثقافة 2023/08/06
...

 د. حنين السلطاني


منذ خمسينيات القرن العشرين والاتجاه الإنساني للفن العراقي أصبح واضحاً كل الوضوح بناءً على وضوح وظيفته الاجتماعيَّة، وساعده ذلك في تفجير الطاقات الفنيَّة معاً، إذ ولد الفنان قاسم السبتي عام 1953 وكان رسّاماً لا تهمه الأشياء الظاهرة، بل اهتمَّ بكلِّ ما يبدو له يحمل انفعالاً صادقاً ينبع من داخله لأنّه كان دائم الحضور في لوحاته الذي عبر عنها بتجريدات واختزالات فكرة الاستلاب بتعبيريّة رمزيّة.

لقد استعان بأشكال هندسيّة تزيد من حدة الشعور بانعدام الحرية والانعزال، ففي أعماله (يستخدم الرموز المعاصرة، الكرة والإنسان الرمز، المجرد من الزوائد، ويعالج موضوعاته مبتعداً عن الحركات الفسلجية وعن الطابع التحليلي في الأعمال، كما يستخدم المربع الذي يرمز إلى الحدود المنغلقة او المستحيلة، بمعناها الفلسفي التأملي وباستخدام أساليب معاصرة قصد منها السبتي تصوير المشكلات بعمق جديد الى حدٍّ ما، وتمكن من أن يطور بدايته ويربطها بالتراث وبالمشكلات الآتية: بلا مباشرة أو صيغة إعلانيّة أي بتحوير الأساليب الغريبة ومزجها بالأفكار والتأثيرات العربية القديمة.

لقد طوّر لنفسة أسلوبا خاصا حاول من خلاله التعبير ضد التقاليد الفنيّة السائدة آنذاك، فاستخدم تقنيات مختلفة (أسلوب النحت، الكرافك، الفوتوغراف السالب، رموزاً رياضيّة وهندسيّة، التضاد بكلِّ أشكاله)، وبهذا يحاول تصوير العالم الخارجي بكلِّ تناقضاته، والمعتمد على الحرية في الأفكار. 

أراد السبتي إعطاء (الهامش) دوراً لا يقل أهمية عن باقي أجزاء العمل عبر الانطلاق والانفتاح الشكلي، وكسر إطار العمل التقليدي، والامتداد إلى خارج الأبعاد المحددة للوحة المعلّقة يطرق باب الدهشة والغرابة ليستعين بها في تحقيق موضوعاته التي تتضح فيها تمثلات مابعد الحداثة من خلال كسر الحاجز بين جنس الرسم وجنس النحت، أي تفعيل التداخل بين الاجناس الفنية المختلفة، وتوظيف الشيء الجاهز الصنع واللامألوفية في صياغة التنظيم العام، وكذلك التحرّر من قيود المحاكاة والواقعية الحرفية، فضلاً عن الجدة في طريقة العرض البصري وانفتاحها إلى خارج حدود اللوحة المتحفية، فما بين جدل اللغة والصورة هناك عمق نفساني مكبوت، يحاول السبتي كشف ترابطه، بمعنى أن أعماله الفنيّة هي عبارة عن خطاب يحمل دلالات احتماليّة خفيّة، فبتركيز اهتمام المتلقي على مجال ما هو متكامل ومتراكب، يحث الفكر بالحراك الديناميكي للتفكيك والتركيب التأويلي، لفك شفرات موضوعاته وعند التمعن فيها نجد أنّها عبارة عن أجزاء أو نسخ مكررة ومتراكبة مع بعضها البعض، كل جزء أو كل منظر يمثل تجربة حلميَّة يتلوها فعل تأمّلي، وتجربة السبتي هذه تتيح للخيال أن يستكمل نشاطه بإدماجه تلك المفردات مع بعضها البعض وإن مزاوجة الأساليب في تقنيات السبتي تقوم على عمليات استحضار وجمع الأشياء المتناقضة واللا مترابطة كنماذج فنيّة يدخلها ضمن أعماله الفنيَّة إلى حيزٍ جديدٍ لا يمكن أن نعدهُ مثلا نحتاً أو رسماً على حدة؛ لأنه يتضمن الاثنين معاً، يستمدُّ السبتي أشياءه من مصادر متنوعة حقيقيّة يستمدّها من عناصر العالم الواقعي فيعيد صياغتها بطريقة ابتكاريّة جديدة. 

إنَّ نمط الصورة عند السبتي يقوم على خلخلة التعيين في بنية الشيء الواقعي لإيجاد علاقة غير مرئية تحفّز نظام الإدراك لدى المتلقي وتجبره على تغيير مساره تجاه اللوحة، وهكذا ينفتح الباب أمام تعدّد القراءات وتأويلها، فمضمون العمل عند السبتي لا يكشف عن نفسه مباشرة، ولكن يجعلنا نبحث في الدلالات والرموز، إذ يمكن للمتلقي أن يؤول بعض الأشكال التي سعى السبتي أن تكون غريبة وغامضة وغير متوقعة تتعدى حدود الطاقة الحسيَّة من دون أن يكون هناك دالٌّ محدّدٌ يمتلك دلالة محددة. إذ ليس للعمل نقطة مركزيّة مهيمنة تستقطب اهتمام المشاهد، بل إن كل عناصر التكوين داخل العمل تمتلك قيمة متساوية، فيستطيع المشاهد أن يختار أيّة نقطة يبدأ منها ليجول داخل العمل.

ولقد حقق السبتي نظاماً جديداً خارجا عن الشائع المألوف في بناء عمله الفني، واستطاع أن يتحرّك بعناصره في فضاءات مختلفة ومغايرة ومفتوحة ليعطي إحساساً بالحركة والانفتاح والتحول من الثابت إلى المتحرّك، فالأشكال حققت حركتها داخل الفضاء المفتوح نحو اللا محدود. وأن السبتي اعتمد في أعماله على معالجات فنيَّة وتقنيَّة، ضمن اشتغالات الذات في طرح الموضوع بالصورة التي تؤكد الأسلوب التعبيري لديه، ليبرز انطباعه من خلال استخراج دلالات الأشكال التي ترفع بعناصره إلى إظهار القيمة الجمالية للاستبطانات الداخلية التي تتجلى في حركات وإيماءات الخط واللون.