الحرب النفسيَّة: مساءلة المفهوم
د. عقيل حبيب
الحرب النفسيَّة هي الحرب التي تستخدم فيها اساليب غير قتالية ماديا للتأثير في سلوك الأفراد والجماعات، وتخاض هذه الحرب على مستوى الافكار والمعنويات، ونظم القيم والعقائد والمشاعر والدوافع والقناعات لاستثارة رد فعل نفسي، فالحرب النفسية تجري وفقا للأساليب النفسية، وهذا يجب ألا يحصر مفهوم الحرب النفسية في حدود علم النفس فقط، بل يبقى المفهوم مفتوحا على جميع العلوم، سواء كانت العلوم الانسانية أو العلوم الصرفة.
أما أقرب تلك العلوم علاقة بمفهوم الحرب النفسية فبحسب رأيي هو علم النفس الاجتماعي.
علم النفس الاجتماعي يركز اهتمامه بدراسة سلوك الفرد في الجماعة والمجتمع، وما تنتج عن هذه العلاقة من تأثيرات وتفاعلات متبادلة بين طرفي المعادلة: الفرد- المجتمع.
كذلك يهتم علم النفس الاجتماعي، بدراسة تركيب التنظيمات الجماعية والاجتماعية بجميع مستوياتها، بدءا من الدولة وانتهاء بثلاثة افراد يعتقدون أنهم جماعة.
وتبقى ظاهرة الحرب بشكل عام هي تنظيم جماعي أو اجتماعي، مهما اختلفت أعداد وأهداف ووظائف العناصر البشرية المشتركة بالحرب.
لهذا جاء تعريف المعجم الأمريكي للحرب النفسية كما يلي “الحرب النفسية هي استخدام مخطط من جانب دولة، أو مجموعة من الدول للدعاية وغيرها من الإجراءات الإعلامية، الموجهة إلى جماعات عدائية أو محايدة، أو صديقة للتأثير على آرائها وعواطفها ومواقفها وسلوكها، بطريقة تعين على تحقيق سياسة الدولة وأهدافها”.
اما وسائل الحرب النفسية فهي ليست البنادق والصواريخ، وأرضها ليست الجغرافيا بل العقول والنفسيات، أما أدوتها فهي الدعاية والشائعة وكل شيء (فكرة، قول، شعار... الخ) يمكن أن يؤطر سيكولوجيا.
أهمية الإطار السيكولوجي هنا تكمن في انه هو الذي يحمل الهدف الذي يوجه المادة الخام (من فكرة أو شعار... إلخ) نحو العدو (الحرب النفسية المضادة)، وكذلك نحو الموالين والحلفاء والمحايدين (الحرب النفسية الوقائية)، سواء كانوا مدنيين أو عسكريين. فالهدف من وراء جمع كل هذه الفئات في بوتقة تعريف الحرب النفسية هو لرفع معنويات الموالين واعتقادهم بصدق قضيتهم، وخفضها بالنسبة للأعداء وزعزعة معنوياتهم، والتأثير بالمترددين وكسبهم. لذا، فمادة الحرب النفسية واسعة جدا، بل تكاد ان تكون بلا حدود (افكار، مشاعر، اتجاهات، آراء، معتقدات ...الخ)، فقط يشترط فيها أن تكون صالحة للتطويع النفسي (من أهم العناصر المساعدة في التطويع هو جو الغموض والتعتيم الإعلامي الذي يفتح الباب للتأويل وإعادة صياغة ال). والتطويع النفسي هو تورية مادة الحرب وفقا للأساليب والتكتيكات النفسية، فمثلا بث اشاعة ما من خلال قصة أو خبر عبر وسائل الاعلام. أما هدف التطويع فهو نفسه هدف الحرب النفسية: تحقيق أهداف الجهة المصدرة للحرب، أي تحويل أي حدث هدفا في المعركة، التي تخوضها الفئات الثلاث التي ذكرناها: الموالون- الاعداء-
المحايدون.
ورغم هذا الاتساع للمجالات التي يمكن الاستفادة منها في الحرب النفسية، إلا أن هناك مجالات يجري الاهتمام بها وذلك لتأثيرها الأبرز في تلك الفئات الثلاث، ومنها القيم الدينة والمشاعر الوطنية والاخلاق والتقاليد الاجتماعية، وهذه القيم والمعتقدات يمكن أن نجدها مبثوثة في الأغاني والحكايات والقصص الشعبية والقصائد والأمثال الشعبية، كما نجدها في النصوص الدينية كالآيات والأحاديث وقصص الانبياء والأولياء والعلماء وتراثهم، كما ونجدها في التراث التاريخي
عامة.
تعيد الدراسات الحرب النفسية كفعل تم ممارسته الى تاريخ بعيد جدا عن تاريخ ظهور المصطلح في كتابات المحلل العسكري البريطاني فوللر في عام 1920م، حيث ذهبت تلك الدراسات الى ان بعض الشواهد الاريكيولوجية دلت على استخدام هذا النوع من الحروب قبل خمسة آلاف سنة من قبل السومريين. ويشير صموئيل كريمر إلى أن لوحا مكتوبا باللغة السومرية، ينقل لنا حادثة تكشف عن استعمال اسلوب سياسي من أجل احراز النصر على العدو.
اسم هذا القائد هو اينماركار في اوروك يشن حربا نفسية ضد حاكم مدينة ارتا الفارسية وسكانها، ويتحدث اللوح المكتوب على شكل قصيدة غن البطل السومري استطاع زعزعة عدوه قبل الاشتباك العسكري وكسر معنوياتهم فخضعوا له. اما الحضارة الاشورية فقد عدت من اكثر حضارات العالم القديم اعتمادا على اسلوب الحرب النفسية، وحرب الشائعات كما تكشف آثارهم.
وكانت الاستعراضات العسكرية واحدة من أهم اساليب الحرب النفسية في تلك العصور، ولأول مرة في التاريخ قام الجيش الآشوري بتحريك جيشه خارج اسوار مدينته واقامة الاستعراضات العسكرية في مدن أعدائه من أجل بث الرعب في نفوسهم، ونقل الرسائل الى أبعد نقطة ممكن الوصول اليها. اما سرجون الاكدي فقد ثبت اسلوب هذه الحرب كجزء من ستراتيجيته العسكرية، حيث كان يكثر من الاستعراضات العسكرية، ويقيم المسلات والنصب التي تحمل رسالة لإرعاب عدوه (ستراتيجية الرعب)، وكان يرسل الأسرى ليحدثوا أعداءه عما شهدوه من قوة.
اما في العصر الحديث فقد انشأت الولايات الأميركية المتحدة اثناء حربها ضد كوريا لأول مرة في التاريخ القسم الخاص بالحرب النفسية هو (مكتب رئيس الحرب النفسية the office of the chief of psychological warfare) والذي فتح مدرسة تدريب المقاتلين على أساليب الحرب النفسية.
في وقتنا الراهن شهدت الحرب النفسية توسعا نظريا وتطبيقيا، وانفتح مفهوم هذه الحرب على العديد من العلوم الاجتماعية والبيولوجية والفضائية والسبرانية، ولم تتوقف عند حدود المجال العسكري، حيث مع تغير مفهوم الحرب العسكرية نفسه (حروب الجيل الرابع، والجيل الخامس) تغير ايضا مفهوم الحرب النفسية واصبح يشمل فئات اخرى غير العسكريين، بل ويشمل مجالات أخرى غير المجال العسكري كالمجال الاقتصادي والتطور العلمي والفضاء وغيرها من المجالات، التي بدأت تظهر في الآونة الأخيرة.
تعتمد الحرب النفسية على عدة قواعد منها ما يمكن أن نطلق عليه (الوظيفة الاتصالية)، والتي تجري من خلال أربع قنوات هي: الاعلام- الدعوة- الدعاية- الحرب النفسية.
أن جزءا من العقد الاجتماعي بين الدولة وجمهورها السياسي هو إطلاع هذا الجمهور (سكان الدولة) على بعض المعلومات الخاصة باتخاذ القرارات السياسية، وذلك التزاما بالقيم الاجتماعية والاخلاقية المعروفة بين الفئات الساكنة على ارض الدولة، كذلك من اجل تدعيم مفهوم التماسك السياسي.
اما بالنسبة للعدو فتخاض الحرب النفسية بطريقة معاكسة، أي بدلا من تدعيم الروح القومية ورفع الروح المعنوية وزيادة ثقة بين الحكومة والشعب، فإنها تسعى لتفكيك الروح القومي لفئات العدو وخفض معنوياتهم وتقليل ثقتهم بحكومتهم.
وفي كلا الحالتين هناك تشابه مفاهيمي، حيث تتعامل الحرب النفسية مع الجماعي وليس الفردي، حتى وإن اعتمد اسلوب تنفيذ الحرب النفسية على الفرد كهدف، أي اعتماد الفرد كإطار يحصر التفكير العلمي الحرب نفسي. ولكن يبقى هذا الفرد ممثلا أمينا للمجموع، سواء كان هذا المجموع مع أو ضد، صديق القائمين على ادارة تلك الحرب أم عدوهم. لهذا فإن مستويات الحرب النفسية الثلاثة المعروفة، كلها تعتمد الجماعي كنواة لتفكيرها في وضع الخطط وتنفيذها، وهذه المستويات هي: أول مستويات الحرب النفسية هو معالجة التأثير العام أو الشامل على الوضع النفسي للعدو، والتي تهدف الى تحقيق الانتصار على العدو جيشا وشعبا وقيادة بزعزعة رغبة في القتال.
لهذا تصبح الحرب النفسية جزءا من استراتيجية
الدول. تمتد الحرب النفسية إلى اقصى حدود (الجمهور) كمفهوم، وتسعى لأن يعبر هذا الامتداد اقصى الحدود الجغرافية والزمنية، وبالتالي يصل إلى العدو البعيد.
ويعتمد هذا المستوى من الحرب النفسية الستراتيجية على استغلال الهزائم العسكرية، وعلى تردي الوضع السياسي والاجتماعي
والاقتصادي. الحرب النفسية كتكتيك ينفذ بسرعة ليحقق أهدافه بسرعة وذلك اثناء الحرب والمواجهة المباشرة مع العدو، لهذا يركز هذا المستوى من الحرب النفسية على العقيدة القتالية للجيوش.
وكما هو ملاحظ، فإن هذه المقالة لم تخض في ماهية الحرب النفسية أو اسلوب تنفيذها (كالشائعة، وافتعال الازمات، واثارة الرعب والفوضى... الخ)، بل هدفت إلى طرح عدد محدود من الأسئلة، انطلاقا من فلسفة العلوم الاجتماعية.
لذا فهي عبارة عن مجموعة من الملاحظات حول مساءلة المفهوم بهدف وضع مصطلح (الحرب النفسية)، ضمن الإطار الأبستمولوجي الصحيح، بعد تعدد تعريفات الحرب النفسية واتساع حقول اشتغالها المعرفية.