نارسيس.. الأسطورة في أعمالٍ فنيَّة

ثقافة 2023/08/08
...

 ترجمة: مظفر لامي


تشكل النرجسيَّة، التي يعرفها قاموس أكسفورد بـ (الإعجاب أو الاهتمام المفرط بالنفس والمظهر الجسدي)، جزءًا كبيراً من حياتنا اليوميَّة، وخلال قرون عديدة، كانت هذه الرغبة، موضوعة متواترة في الفن، استلهمها الفنانون وتأثروا بها بطرق مختلفة. في عصرنا الراهن أصبحنا نعيش في عالم يتمحور كثيراً حول الذات، حيث زادت النرجسيَّة من انتشارها، مثلما نشهد في ثقافة (الصور الشخصية selfie) الشائعة كثيراً في مجتمعاتنا. وأخذ المظهر الجسدي، مع الازدياد الملحوظ في شعبيّة منصّات التواصل الاجتماعي، يعد أولوية عند الساعين للكمال. وحين نتساءل: هل استخدامنا أنفسنا كموضوعة فنيّة يمثل صفة نرجسيّة؟ أم أنّه أمر أكثر ألفة وقابلية للتواصل؟، نجد أنَّ الإجابة لن تكون واحدة بأيِّ حال من الأحوال. غير أن تساؤل كهذا، يمكن أن يحيلنا لأسطورة نارسيس ابن إله النهر كيفيسيا والحورية ليريوبي الذي كان الجميع يتودد إليه لحسنه وجماله، لكنه كان يواجههم دائما بالرفض، من دون شعور بالندم. وفي أحد الأيّام، يجلس ليستريح عند نبع، أثناء رحلة صيد، ويغرم بصورته المنعكسة في الماء، الأمر الذي يجعله يقضى أياماً وليالي طويلة يحدق فيها حتى مات وتحول لزهرة النرجس الشاحبة التي نراها دائماً تنعكس على صفحة الماء. وهذا الهوس بالصورة المنعكسة كان المصدر الذي اشتقَّ منه مصطلح النرجسيَّة. 

هذه الأسطورة كانت موضوعاً شيقاً، وضع له العديد من الفنانين تفسيرات مختلفة في لوحاتهم. وفي مقالنا هذا سنتناول ثلاث لوحات، موقعة من قبل ثلاثة فنانين، استلهموا هذه الأسطورة في أعمالهم في فترات زمنيّة، وحركات فنيّة مختلفة. وهم كل من كارافاجيو، ووترهاوس وسيلفادور دالي. بإمكاننا الإشارة إلى أن تفسير كارافاجيو للأسطورة كان الأكثر بساطة بينهم، وفي لوحته الزيتيّة، التي أتت بحجم متوسط، أظهر لنا بوضوح وفائه لأسلوب الباروك، حيث استخدم درجات باردة من الأزرق والأخضر لإضفاء مسحة دراميّة كئيبة. كذلك استخدم تقنية تسمى القتامة tenebrism وهو أسلوب للرسم، تعطي فيه الإضاءة انطباعا دراميا من خلال التباين الحاد بين المساحات المضاءة والأخرى المظلمة. وفي هذه اللوحة ساعدت هذه التقنية في توجيه نظر المشاهد لشخصية نارسيس في النصف العلوي من اللوحة، بينما احتل انعكاس صورته في الماء النصف الأسفل منها. ومن أجل جذب الانتباه لملامح وجه الشخصية، زاد من تشبّع اللون، وجعل العينين ينظران نحو الأسفل، بينما شكّل الساعدان مع انعكاسهما إطاراً دائريّاً في إشارة للحلقة المفرغة التي ينطوي عليها حب الذات. 

الرسَّام الانكليزي ووترهاوس تميّز بإضافة الحوريّة إيكو، التي نراها في لوحته تنظر بحزن لنارسيس، وهو يحقق نبوءة الأسطورة بتعلّقه بانعكاس صورته بينما تقف هي عاجزة عن جذب انتباهه بعيداً عن أهواء نفسه. وبالمقارنة مع الفنانين الآخرين، لم يبحث ووترهاوس عن وسائل بديلة للتعبير، وفضل الالتزام بالمواضيع والتقنيات الكلاسيكيّة الصارمة، ونجد في لوحته هذه تأكيداً للرأي الذي يذكر، أنّه يستخدم الوسائط اللونيَّة ببساطة؛ ليعيد سرد الحكايات المحبّبة، ومن ثمَّ يبقى وفيّاً لأسلوبه الفيكتوري. وعلى غرار كارافاجيو، هناك شعور واضح بالكآبة في هذه اللوحة، يُعبر من خلالها عن اللحظة المدمِّرة، التي لا يستطيع فيها نارسيس رؤية شيء آخر غير انعكاس 

صورته. 

ونلاحظ أن جميع العناصر في اللوحة تدور حول شخصية نارسيس، فالحورية إيكو التي هي مغرمة به حدَّ الجنون، تحدّق في وجهه بعمق مما يوجه نظر المشاهد نحوه. كذلك أضاف الرسَّام مجموعة منوّعة من الألوان الغنيّة والمميزة، مثل الوردي الرقيق، الذهبي، الأخضر النضر والأزرق، وهذه الدرجات اللونيّة الفاتحة أضافت طابعاً خياليّاً لموضوع اللوحة الأسطوري. نلاحظ كذلك أن استخدام اللون الأخضر أعطى إحساسا بالانسجام والطمأنينة والتوازن، على الرغم من أن الحالة التي تمر بها الشخصية في اللوحة هي عكس ذلك تماماً، والأغطية ذات اللون الوردي الفاتح والأحمر، التي يرتديها كل من نارسيس وايكو كانت متناقضة معه. وبخلاف الرسّامين الآخرين الذين أرادا تقديم لوحات جديدة ومثيرة للاهتمام، نجد أن ووترهاوس استخدم ألواناً هادئة ومستوى عالياً من الواقعيَّة من أجل تصوير الأسطورة بأمانة. 

في المقابل، نجد تعاطياً أكثر فوضويّة مع الأسطورة في لوحة سيلفادور دالي. فالعمل لا يدين إلا بالقليل للقصة التي تروى فيها، وهذه اللوحة، ذات الحجم المتوسط، التي تقدم مناظر طبيعيّة قاحلة، عالية الإضاءة، لا تشترك بشيء مع المكان المخفي في الغابة المظلمة التي وصفها أوڤيد. البركة الموجودة في لوحة دالي، هي أيضاً بعيدة كل البعد عن الينابيع الفضيّة الكريستاليّة للمياه العذبة، وتبدو كأنّها جزءٌ من بحيرة ذات مياه غريبة ومشؤومة. لا وجود لحوريّات في اللوحة، ونارسيس صوّر كشكل مكبر لرجل رأسه مستريح على ركبته، وليس كشابٍ معشوق كما تذكره الأشعار في الأسطورة. كذلك، أضاف دالي العديد من العناصر غير الموجودة في الأيقونة التقليدية لنارسيس؛ كاليد الحجريّة مع البيضة في المقدمة ونمل يدب عليهما، تمثال يقف على قاعدة في منتصف رقعة شطرنج، مجموعة من الرجال والنساء في حالة هياج... الخ، وقد حقق بذلك صلة بين الأسطورة اليونانية واهتمامه بأطروحات التحليل النفسي، وأبرز كذلك صدق تعامله مع الأسلوب الذي عرف به.  

نلاحظ أن الرسامين الثلاثة قاموا بتكييف الأسطورة في لوحاتهم وفقاً لأساليبهم الخاصة، وتبعاً لتأثيرات الفترة الزمنيّة التي عاصروها، لكن محاولاتهم المتباينة في تفسيرها كانت تسلّط الضوء على مدى أهميتها عبر قرون عديدة.