وعي الوجود شعرياً وفلسفياً

ثقافة 2023/08/09
...

 ريسان الخزعلي

 صدرت للشاعر العربي خليل حاوي أعماله الشعريَّة (نهر الرماد، الناي والريح، بيادر الجوع، من جحيم الكوميديا، الرعد الجريح) قبل انتحاره المأساوي عام 1982. وقد أثار هذا الانتحار أسئلة حادّة عن معنى الانتحار من وجهات نظر وجوديَّة ومعرفيَّة وفلسفيَّة، إذ قلّما أقدم شاعر عربي على الانتحار في العصر الحديث. ولأنَّ  الشاعر في الانشغال الأكبر لتسويغ حياته ووجوده، تسويغ الالتصاق بالحياة ومحاولة انتزاع الجمال حتى من كلِّ ما هو موصوف بالقبح، وتقديمه إضافة نوعيَّة في تجميل الوجود. والشاعر هو الشاهد والرائي والعارف للتحوّلات الكبيرة التي تنتزع الدهشة.

 شاهدٌ وراءٍ وعارف/ فيها وعليها/. والشاعر خليل حاوي في شعره يعي الوجود شعرياً وفلسفياً، والتنقيب الدقيق في نتاجه الشعري يوصل إلى هذه النتيجة مركّبة الأبعاد، حيث البُعد الروحي والبعُد الظاهري يُطوِّقان استغراقه الشعري العسير؛ وهذه العسرة لابدَّ أنْ تكون نتيجة عوامل ضاغطة ولّدتها خبرة معرفيَّة/ وجوديَّة/ فلسفيَّة/ في الحياة. من هنا نجد الشاعر وعلى العكس من الشعراء الآخرين الذين يضعون توضيحات هامشيَّة لقصائدهم بغرض فَهم المناخ العام لها أو توضيح دلالة الرموز والإشارات المستعارة. وغالباً ما تكون التوضيحات في نهاية الأعمال الشعريَّة، إلّا أنَّ  الشاعر/ خليل حاوي/ يحيد عن هذا السياق، ويجعل الإشارات موجّهات ومقدمات في فاتحة أعماله الشعريَّة، وبقصديَّة مدروسة بحيث تكون المقدمات جزءاً من القصيدة ومكمّلة لها شعرياً وباتجاه يُفضي إلى وعي فلسفي يُعمِّق المعنى (رأيت  في أروقة الجحيم بشراً لا يعيشون ولا يموتون- مقدمة مجموعة “من جحيم الكوميديا”). والعبارة من الكوميديا الإلهيَّة لدانتي؛ وقد سبق أنْ ثبّت العبارة نفسها في قصيدة (نهر الرماد). وبذلك يكون الشاعر في مواجهة وجوديَّة، مكانها الجحيم وما يشغل هذا المكان من الذين لا يعيشون ولا يموتون؛ وقد طوَّع هذه المواجهة شعرياً  وبارتكاز فلسفي يُصوّر وعي الوجود شعرياً وفلسفياً.
في قصيدة (البحّار والدرويش) كانت المقدمة- طوّف  مع (يوليس) في المجهول، ومع (فاوست) ضحّى بروحه ليفتدي المعرفة، ثم انتهى إلى اليأس من العلِم في هذا العصر، تنكّر  له  مع (هكسلي) فأبحر  إلى ضفاف (الكنج) منبت التصوّف.. لم ير غيرَ طين ميت هنا، وطين حار هناك. طين بطين- هي المفتاح الذي يفتح مغاليق القصيدة، ويُكمّلها، ويُرمّز وعي الوجود شعرياً وفلسفياً. ويفهم الشاعر ضمن هذا الوعي معاناة الموت والبعث على أنّها أزمة ذات وحضارة كونيَّة، كما في مقدمته لقصيدة (بعد الجليد): إنَّ  العمر والزمن وهم وغفلة- أفلاطون والأمثال الشعبيَّة. وهو الوعي نفسه الذي يقود إلى قصيدة (دعوى قديمة). وقصيدة (عند البصّارة) في مجموعة (الناي والريح) إذ جاءت المقدمة لتكون هي الكشف الشعري الأوّل عن المعاناة قبل القصيدة: “قبل السفر من بيروت إلى ضفاف (كام)، إلى (كيمبرج). حوار داخلي تسوق طرفاً منه البصّارة والجن الذي يحل  فيها فيجسّدان للشاعر رعبه من صمت لن يتولّد عنه غير مأساة تُحيله إلى مجنون متألّه أو مهزلة تُحيله  إلى ساحر مهرّج. وفي كلا الحالين يستعيض بمعجزات وهميَّة مُعادِلة لمعجزات أرادها أنْ تُعيد خلق الواقع، وفي النشيد الأخير يتحدّى الشاعر الصمت الذي أرعبه  ودفعه  إلى سؤال البصّارة عن مصيره، ويتغلّب على المفجع بأفجع منه، بتضحية قد تُرضي ربّه فيسعفه على الشعر بقدرة خالق.
إنَّ هذه المقدمة تُحدّد وعي الوجود شعرياً وفلسفياً، ويظهر فيها: الحوار الداخلي، الرعب من الصمت، المجنون المتألّه، الساحر المهرّج، محاولة خلق الواقع، المصير المفجع، ولكن باستعداد واشتغال نثري/ تقديمي سابق لفعل القصيدة في حدّها الشعري وبنية تكامل الشعريَّة.
وفي مقدمته لقصيدة (السندباد في رحلته الثامنة) التي يقول فيها: كان في نيّته  ألا ينزعج عن مجلسه في بغداد بعد رحلته السابعة، غير أنّه  سمع  ذات يوم عن بحّارة غامروا في دنيا لم يعرفها من قبل، فكان أنْ عصف به الحنين إلى الإبحار ثامنة. ومما يُحكى عن السندباد في رحلته هذه، أنّه  راح يُبحر في دنيا ذاته، فكان يقع هنا وهناك على أكداس من الأمتعة العتيقة والمفاهيم الرّثّة، رمى بها جميعاً في البحر ولم يأسف على خسارة، تعرّى حتى بلغ  بالعري جوهر فطرته، ثم عاد يحمل إلينا كنزاً لا شبيه له بين الكنوز التي اقتنصها في رحلاته السالفة، والقصيدة رصيد لما عاناه عبر الزمن في نهوضه من دهاليز ذاته إلى أنْ عاين إلى إشراقة الانبعاث وتم له اليقين.
ما تُضمره المقدمة هذه من مداليل الرحلة في الذات، العري والفطرة، الزمن، الكنوز الجديدة، الانبعاث واليقين، والسندباد الجديد، تكشف عن محنة الشاعر الوجوديَّة/ الفلسفيَّة. وما السندباد في القصيدة، ما هو إلا الشاعر/ خليل حاوي/ ..، وقد وجد في هذا التقديم خيطاً دقيقاً لا تستطيع القصيدة أنْ تُظهره دون تكاملها بهذا التقديم الذي يعي الشاعر من خلاله الوجود شعرياً وفلسفياً، وبذلك تجاذب الشعري مع النثري لتكوين قطبيَّة واحدة متراصّة وليس التنافر المفترض. أما مقدمة قصيدة (الرعد الجريح) التي أخذت طابعاً سردياً، فقد جاءت بمدلولات عدّة عن محنة الشاعر الوجوديَّة: عند المنعطف الأخير الخطير من العمر، عاينت  غبش المساء يتكاثف على درب  تنحدر بي وحيداً إلى ليل بلا شواطئ ومعالم، فحاولت  أنْ أُجابه الطبيعة، طبيعة ذاتي وطبيعة الكون في حال من التجرّد المطلق. غير أنّي لم اكتشف فيها مصيراً يفضل المصير الذي عانيته بالحواس ورسّخته في التراث مذاهب عديدة، إنَّ الكون تغيّر وثبات، ولقد خبرت  التغيّر فصولاً من الطراوة المنعشة يتلوها ما أعانيه اليوم من جفاف العمر وصقيعه. أما الثبات على حالة واحدة فجحيم من السأم يسير على خط رتيب يتوسّط بين التنفّس والاختناق. ولقد عجبت  لمن يرونه منتهى النعيم الموعود. وكاد يُسيطر إيقاع الهلاك على القصيدة من المستهل إلى الخاتمة. ثم  تجلّت الرؤيا هالة من هول الرعد ومهابة الجبل في طلعة بطل مُخلّص، صاغه دفق الحياة البكر في أرض  راحت ترفل بحيويَّة الفطرة، لطول ما اختزنت من طاقة هائلة عبر هجوع  طويل كنت كمن يسمع ويُطيع فيرسم بإيقاع التمجيد والتهليل لوحة تُنافي الإيقاع في ما رسمتُه من لوحات سابقة. إنَّ البطل المُخلّص بريء من فساد لوّث من قبل كيان السندباد فحتّم عليه أنْ يبلو جراحاً تنزف ما في عروقه من دم مُلوّث. كما حتّم عليه أنْ يُبحر ويطلع علينا من البحر، منبت الحياة الأُولى، طفلاً غنيّاً يجهله المشرق. كان عليه أنْ يهدم نفسه ويبنيها ويكون خالقاً ومخلوقاً، غير أنّه يُحاور في القصيدة البومة التي لا تُفرّخ في مجال الشعر إلا في غروب الحضارات وانحلالها كما يقول هيجل، وهما يتناوبان الإيقاع، يفترقان ويصطرعان ثم يغيبان معاً في بُحران من ضباب التبغ وسرابه. أما (لعازر 1962) فيعاني الحياة موتاً في الحياة، تموت فيه القيم، وتحتقن الحيويَّة فيكون الطاغية، وتكون المذلّة مصدر تعاظمه “مارداً عاينته  يطلع  من جيب السفير”. إنَّ الرؤيا الشعريَّة تُزيح الحُجب أو ترى غير الحُجب مصيراً مقدّراً يهبط من عالم الغيب، لست  أدّعي ذلك، بل يولد الحلم في صيغة القدر المبرم الذي تعمل عوامل خفيَّة معقّدة على تجسيده وتحويله إلى واقع ظاهر.
إنَّ المدلولات التي أظهرتها مفردات هذه المقدمة النظريَّة- المنعطف الخطير، مجابهة الذات والكون، جفاف العمر، الثبات على حالة واحدة، جحيم، التنّفس والاختناق، الهلاك، هَول الرعد، منافاة الإيقاع، هدم النفس، غروب الحضارة وانحلالها، لعازر 1962 ومعاناة الحياة موتاً في الحياة، القدر المبرم، الواقع الظاهر- تُمثّل ارتجاجاً نفسياً وروحياً، وإحساساً بفجيعة ما، ربما هو الانتحار الذي أقدم عليه الشاعر، لأنَّ الثبات على حالة واحدة جحيم، ومعاناة الحياة موتاً في الحياة/ لعازر 1962. وإنَّ تناغم وتجاذب المقدمة النظريَّة مع القصيدة يُمثّل تكاملاً في وعي الوجود شعرياً وفلسفياً (كانت الغصّات موجاً يتلوّى ويدوّي في مضيق. يزحم  الموج  الذي يرتدُّ من عن سور عتيق. كان في الغصّات ينحلُّ قناعي عن فسوخٍ ترتعي جدران  جسم  متداعي).
إنَّ المدلولات (الهلاك، جفاف العمر، الاختناق، القدر، الجحيم، هدم النفس، المنعطف الخطير) كما وردت في المقدمة النظريَّة، هي الغصّات والجسم المتداعي في مفتتح القصيدة. فهل كانت القصيدة عاجزة عن مسك جرفها دون المقدمة؟ أو أنَّ المقدمة هي التي طمحت  لهذا التواشج؟. إنَّ الإجابة تطمح لأنْ تُمسك هذا السّر الخفي الذي لا يُظهره الشاعر تصريحاً، غير أنَّ التلميح يكشف قوّة ترابط الوعي مع جوهر الشعر، ولأنَّ المقدمة هي الجسر الذي يوصل إلى الضفّة الأبعد، ومن دون هذا الجسر لا نستطيع أنْ نمسك بالقصيدة، قصيدة/ خليل حاوي/ تحديداً. ولأنَّ الشاعر يُدرك إقدامه على وعي الوجود شعرياً وفلسفياً، وإنَّ هذا الوعي لابدَّ أنْ يتمسرح شعراً ونثراً ولكن في رقصة واحدة مشتركة حزينة. وقد عمد  الشاعر إلى مسرَحة قصيدة/ شجرة الدّر/ في مجموعة/ من جحيم الكوميديا/ باستعارة سيرة الملك الظاهر وجعلها مقدمة نظريَّة للقصيدة، كون تلك السيرة تتحدّث عن الألم، وهنا يتطابق إحساس ووعي الشاعر مع الحكاية.
وفي قصيدة (لعازر 1962) من مجموعة/ بيادر الجوع/ كانت المقدمة متماهية، تُنازع من أجل الوصول إلى كمال وجودي يشبع النفس والجسد: كنت صدى انهيار في مستهلّ النضال، فغدوت  ضجيج انهيارات حين تطاولت مراحله، ثم راحت ملامحك تكوّن ذاتها في ذاتي..، ويوم تمَّ تكوينك، يوم طلعت من بخار الرحم ودخان المصهر، كنت لعيني وجعاً ورعباً، حاولت أنْ أهدمك وأبنيك، وكانت مرارات عانيتها طويلاً قبل أنْ أنتهي عن رغبتي في أنْ تكون أبهى طلعة وأصلب إيماناً وأجلَّ مصيراً..، وهكذا جوهر كيانك وفي ما يُشبه الحدس اتحد  الحاضر بكل زمان، والواقع بالأسطورة، فاكتسبت اسماً وكان الاسم جوهر كيانك، لعازر، الحياة والموت في الحياة، تموت القيم في المناضل وتسلم الحيويَّة فيكون الطاغية..، وبديهي أنْ يتعطّل نطوّر الحياة متى انشقّت إلى مثاليَّة غيبيَّة وماديَّة متسفلة، متى تغوّرت الحيويَّة، وخلع  الوهم ظلّه المخدّر على فجائع الواقع.
إنَّ موضوع: الهدم والبناء، الموت والحياة، فجائع الواقع، الوجع والرعب، الانهيارات، تداخل الذات مع الذات الأخرى، اتحاد الحاضر بكل الأزمنة.. إلخ، يُشكّل صدمة وجوديَّة/ فلسفيَّة للشاعر تحت ضغط الوعي الحاد الذي يطرق عصب الشاعر بقوّة، ويفتت روحه..، وإنَّ الوصول إلى القصيدة لا يتم إلا باتحاد الحاضر مع كل زمن.. وهذا يعني دالّة للموت (عمّق الحفرة يا حفّار عمّقها لقاع لا قرار. يرتمي خلف مدار الشمس ليلاً من رماد. وبقايا نجمة مدفونة خلف المدار. لا صدى يرشح من دوّامة الحمّى ومن دولاب نار. آه لا تُلقِ على جسمي تراباً أحمراً حياً طري. رحماً يمخره الشرش ويلتف على الميت بعنف  بربري).
هل كان وعي الوجود شعرياً وفلسفياً في مقدمات قصائد/ خليل حاوي/ سابقاً على شعره..؟. إنَّ  الجواب يكمن في أنَّ المقدمات كانت متممات استباقيَّة لفكرة الشعر والقصيدة...