مفاهيم كوريغرافيَّة مستحدثة للثنائي ايفان واليسار كركلا

ثقافة 2023/08/09
...

 يقظان التقي

عودة مسرح كركلا الاستعراضي الراقص من خلال عرض كورغرافي/ غنائي بعنوان “فينيقيا بين الأمس واليوم” بمشاركة 75 عضواً، منهم ممثلون، وراقصون ومطربون وإداريون، في “مسرح كركلا - سنتر إيفوار” في منطقة سن الفيل، الذي افتُتح رسمياً بتعاونٍ مع السفارة الإيطاليَّة، بعد انقطاع لسنوات في بنية الوطن المأزومة، من خلال العودة إلى دور الفرقة الأصيلة.

لأشهر تواصل كركلا عروضها على مسرحها الأكاديمي في سلسلة عروض اسبوعيَّة تمتد الى منتصف الشهر الحالي (أغسطس/ آب)، بعيداً عن أزمات البلد السيايسة والاقتصاديَّة والاجتماعيَّة، التي تمرُّ بها البلاد، وفي فضاءات راقصة تشكيليَّة وإيقاعات إيجابيَّة تشحن الخشبة برومنطثيَّة تعبيريَّة، مع إبحارٍ مهمٍ للمصصم الكوريغرافي الشاب المخرج ايفان كركلا وشقيقته المدربة الفنيَّة اليسا، ومن خلال تطور في الأدوات واللغة التعبيريَّة، وبنزعة حداثيَّة لفرقة اكتسبت شهرة عالميَّة، تدينُ بها لمصمم رؤاها ومؤسسها عبد الحليم كركلا .عرض ابحار في الزمن، طريق فينيقيَّة، تطول الى عمق مسار تجربة الفرقة، وتحولاتها واختباراتها، بين زمنين من الحنين بين التراث والحداثة، أوصلتها الى مؤسسة فنيَّة كبيرة، والى العالميَّة، انطلاقاً من خصوصيتها اللبنانيَّة والمشرقيَّة.
الفرقة قدمت عروضها في كبرى صالونات ومسارح العالم، وتختبر تقنيات المسرح الحديث وتياراته الحديثة وعناصره لتحافظ على الاستثنائيَّة الإبداعيَّة اللبنانيَّة وألوانها، وتنفتح على فنون العالم وحضاراته، وباكتشافات الأفق تلو الآخر والألوان تلو الأخرى، وهي صورة عن حلم تمثيلي للطبيعة اللبنانيَّة الطيبة وتوقها وشغفها بالحب والسلام مع الآخر والذات التراثيَّة معاً.
من بعلبك إلى بيروت والعالم، من ديكورات المكان التاريخي وسينوغرافيا مدينة الشمس إلى صالة «سن الفيل» ومنها الى مسارح عالميَّة. ديكورات ليست باذخة هذه المرة، بسيطة تعبيرياً، اختلطت مع احتفاليَّة قريبة بالناس، والرسميين، والمثقفين، والإعلاميين، وفعاليات المدينة.
عنوان العرض ليس جديداً، مثل العناوين الأخرى، بنسخة معدلة أمام جمهورٍ تعددي من مختلف الأجيال اللبنانيَّة.
ولمسيرتها في لقاءات مدينيَّة مفتوحة على صخب الألوان والإيقاعات. نظرات جديدة منتظرة نضجت اللحظة الفنيَّة التعبيريَّة مع فريق الشباب في الفرقة والإعداد والتصميم الثنائي الشاب في عرض من فصلين. شكل الفصل الأول مستوى متقدماً من العروض العالميَّة التي تقدمها كركلا، والمسرح الاستعراضي الذي يطول إلى عمق تجربة الفرقة. احتفاليَّة جسديَّة راقصة تقدم مفرداتها التعبيريَّة برشاقة وبحيويَّة، وبمزيجٍ من نصٍ مفتوحٍ على تعبيرات جديدة متحركة تعبيرياً بحريَّة وبميتافيزيقيَّة جسديَّة شاملة/ غير المشهديَّة الغنائيَّة التي كانت تتحرك بسيناريو ضعيف من الرومنطقيات اللبنانيَّة المتأخرة. سرديَّة الجسد تحركت وحدها على مسرح له جمالياته، بمرونة وتماسك، وحرفيَّة عالية لفرقة تملك بصمتها وخصوصيتها الاستثنائيَّة في إنتاج ذاتها والآخر، وفي تعاملٍ فني جديد يمثل تفجر مرحلة جديدة في أداء الفرقة من حيث قوتها وجسدّيتها، وإنْ استقرَّ العمل في الفصل الثاني على خشبة تقليديَّة لم تغادر قواعدها الكلاسيكيَّة الجميلة. لكن على تكرارات بيروقراطيَّة، على شقوق وكسور في النص الذي كان يمكن أنْ يخضع كما الفصل الأول للاختزال والتكثيف من بعض الكيليشيات، وعاديَّة الكلام والقصص والأخبار، وبمستويات من العفويَّة اللبنانيَّة والبعلبكيَّة. بساطة شاعريَّة، وأشياء من السيناريو الذي بات عبئاً على إنتاج الفرقة الحداثي ويعيق تقدمها وتفجر مراحلها، وما يثقل على أداء الجسد وإيقاعاته الديناميَّة الساحرة.
لكنَّ هذا لم يؤثر كثيراً في لحظات العرض العالية، وعلى كوريغرافيَّة عرض متماسكة، متناغمة أظهرت إمكانات إخراج وتوليف لعناصرعدة، بإدارة مشتركة من مخرج العرض إيفان كركلا ومصممة الكوريغرافيا الراقصة اليسار كركلا، في منتوجٍ فني واعدٍ جداً، وسينوغرافيا بصريَّة مرئيَّة وصوتيَّة وحركيَّة. عرضٌ خلابٌ جسّد معماريَّة الجسد الراقص ومعماريَّة من عالم من الأزياء، ومعماريَّة الموسيقى التي تتحرك في لوحات جماليَّة رائعة على مدى ساعتين.
جسد كركلا الانثوي أكثر، حفلّ بأكثر من نجمة، لا يهدأ بالتمثيل الحركي والإيمائي، بتعديلات طالت تفاصيل دقيقة، ليست تقنيَّة بل جوهريَّة في عرض يمزج التيارات الحديثة للفرق الكبرى، فرقة موريس بيجار الشابة، والباليه الروسي مع البولشوي، في قسم أول استثنائي في شفافيته، وبتلوينات وروح شرقيَّة خلابة، وفي عرضٍ أخاذ، كان يمكن أنْ يطول، ويكوّن معنى العرض كله.
كركلا يعرف كيف يرسم تصاميم وتابلوات في غاية الإبهار والتذويق والغرض الجمالي، وفي مساحة عاطفيَّة عبرت طويلاً في غناء هدى حداد وجوزيف عازار وأصوات أخرى في المجموعة، وبالحواس الصاخبة الغنائيَّة الرومنطقيَّة والمباشرة في مقطوعات غنائيَّة تراثيَّة حيَّة. لكنَّ الجسد عند كركلا يقول أشياءه الأخرى. مسرح جسدي مختلف تماماً يملك قوة مختلفة، يرفّل الجسد المتفجر، مسرح آخر يصير كتلاً شعوريَّة أخرى مع الملابس والأزياء. مسرح داخل المسرح (500 قطعة ملابس مزركشة من أرجاء العالم، جمعها لسنوات عبد الحليم كركلا الذي يمتلك متحفاً من 6000 قطعة ملابس فنيَّة نفيسة جداً)، إذ تتصل الخيوط بجغرافيا شعوريَّة مزركشة وبتوسعيَّة مكانيَّة واسعة حيناً، وتنعقد دنيا نغم على جسد الممثلين والراقصين وأدائهم، وبإيحاءات من الإضاءة المشغولة بتقنيَّة البعد الثالث (ميتافيرس”. الأزياء، فسيفساء كركلا داخل كركلا، ومسرح داخل المسرح، والإضاءة من مجازات الإيطالي لفينيسيو تشيلي الموحية الى الأمور التي عادة ما تستقر مع كركلا مع الديكورات البراقة المقتصدة هذه المرة (حسنا فعل كركلا الابن).
وكالعادة عمر كركلا يلهب حماس الجمهور الكبير وبقوة الدبكة اللبنانيَّة، لكنْ هذه المرة بتصرفٍ جسدي آخر لا يقل حماساً عند الرجل الستيني، الذي يلهب جمهور المسرح، حين يستعيد الأجواء التقليديَّة الفولكلوريَّة بخطوات فرقة صارت مؤسسة حضاريَّة، وبتصفيق المسرح الكبير، وبفرح الجيل الجديد واستعادة اللبنانيين لثقتهم بذاتهم ووطنهم ورسالتهم الإنسانيَّة.
عرض يتقدم خطوات عن العروض السابقة، يعيد شيئاً من رصيد لبنان الفني والإنساني الذي حملته الفرقة الى عواصم عالميَّة من كاليفورنيا الى اليابان، وباريس، ولندن، واشنطن، وأوتاوا، وريو ديجانيرو، والقاهرة والصين. عودة قويَّة لاستمراريَّة عمل الفرقة، والإيمان بالمسرح مساحة تعبير تكمل تجربة فنيَّة كبيرة مع الاخوين الرحباني العريقة، صار تجريباً مسرحياً من نسيج التحولات في المجتمع اللبناني الحديث السياسيَّة والاجتماعيَّة والفنيَّة، بتجريب لطاقات شابة لفرقة خارج التصنيف في الأداء الجسدي التعبيري (غير الميكانيكي عند بعض الفرق الأخرى الناشئة، أو ما يشبه ذلك).
دوماً المقاربة مع كركلا هي للدور الذي ترسمه الأجساد، والتي لا يقوم مسرح كركلا من دونها، وهي تحكي وظيفة العرض بمفرداتها التعبيريَّة أكثر من السيناريو الذي تميز وبرع به الاخوان الرحباني في ثورة موسيقيَّة غنائيَّة ثانية بعد ثورة السيد درويش الموسيقيَّة. مع أنَّ ايفان يعد باهتمامات ومفاهيم مستحدثة تطلق أكثر لغة الجسد، ولا تعيق حركته على الخشبة، ولا تثقل عليه، ويعدها كركلا التشكيل البصري السحري، والاقتصاد في الأداء الكلامي للممثلين من الرعيل القدير والوفي الذي لن يجري التخلي عنه مطلقاً. لكنَّ تكثيف سيناريو لم يتقدم كثيراً، ولا يتقدم بعيداً، لا يجسد روح فرقة استعراضيَّة تملك مفردة نعبيريَّة ساحرة هي لغة الجسد، لا المسرح الغنائي ومباشرة موضوعات مركزة دوماً، صارت تكرارات بيروقراطيَّة، ومعالجة نصيَّة مبسطة دون المستوى، أمام الاستعراض التعبيري الجسدي والتطريبي الذي يصير مع الموسيقى الفضاء الساحر والجاذب لأجيال تتالت على الفرقة، (3 أجيال).
فرقة أدخلت الرقص الفولكلوري والحداثي الى العالم العربي، وأسست حالة فنيَّة ومؤسسيَّة، وخرّجت أسماءً كثيرة ونجوماً في الرقص عالميين، أسسوا مهرجانات، وقدموا أرقى ما يكون من تجارب شخصيَّة. العرض الجديد لا شك يسهم في تعزيز مسيرة كركلا.