الفضاءُ الرقميّ.. آفاقٌ واسعةٌ وبوابةٌ مُتاحةٌ للكسبِ المادي

ريبورتاج 2023/08/09
...

   رحيم رزاق الجبوري
نادرًا ما تجد فئة قليلة من الشبان - الخريجين والذين لا يمتلكون مؤهلا- فرصة للتعيين، في دوائر الدولة ومؤسساتها؛ في ظل انحسار وندرة فرص العمل في القطاع الخاص. فهؤلاء -الذين ينخرطون في القطاع العام- هم محظوظون بنيلهم تلك الفرصة، سواء أتتهم بعناء وتعب، أو بفعل وجود وساطة أو دعم معين.

ومنهم من تحصلَ عليها بدفع مبالغ طائلة؟ لكن بعض فئات المجتمع، لم تستسلم، وصنعت لنفسها مضمارًا جديدًا للعمل وتركت السائد والمألوف، ولم ترهن مستقبلها بيد المبتزين، وبائعي الضمير، بل راحت تبحثُ عن بوابة أخرى، ربما تكون أفضل وأحسن من تلك التي في القطاع العام.
فاختارت اللجوء إلى الفضاء الرقمي الواسع، والغوص في مواقع التواصل الاجتماعي، التي وجدتها مفتوحة على مصراعيها، فأخذت الصالح والمفيد منها - وهو كثير ووافر- وطوعته لبناء مشاريعها وخططها المستقبلية سواء على صعيد الكسب المادي المشروع، أو عمل نافذة تدر عليها أرباحًا بمشاريع مختلفة، أو تلك التي راحت تبحثُ عن فعل الخير والصلاح، والإسهام في الأعمال الإنسانية والخيرية.

العملُ صلاحٌ للفرد والمجتمع
 لا تستقيمُ حياة الإنسان إلا بالعمل.
إذ يعد من أهم الأشياء التي يمارسها الإنسان في حياته اليومية.
قال - تبارك شأنه- في سورة التوبة: ((وَقُلِ اعمَلُوا فَسَيَرَى اللهُ عَمَلَكُم وَرَسُولُهُ وَالمُؤمِنُونَ وَسَتُرَدونَ إِلَى عَالِمِ الغَيبِ وَالشهَادَةِ فَيُنَبئُكُم بِمَا كُنتُم تَعمَلُون)) (105).
كما أكدَ الرسول الأكرم محمد المصطفى (ص)، أهمية العمل وقدسيته، وتأثيره في الحياة الاجتماعية للفرد والمجتمع، حينما سُئِلَ: أي الکسب أطيب؟
قال: «عملُ الرجل بيده، وکل بيع مبرور».
وجاء في حديثٍ شريفٍ آخر: «ما أکلَ أحدٌ طعامًا قط، خيرًا من أن يأکلَ من عمل يده».
في إشارةٍ واضحةٍ وسديدةٍ، إلى قيمة العمل، وعدم الاتكال على الآخرين.
وشددَ الكثيرُ من الفلاسفة والمفكرين، على العمل وأهميته، وانعكاساته الإيجابية على الأُسرة، والبيئة الاجتماعية، واستقرارهما، فيقولُ فولتير (1694 - 1778): "العملُ يبعدنا عن أكبر ثلاثة شرور في الحياة: الملل، والإثم، والحاجة"، ويشدد آخرون على أنه ليس هناك مستقبلٌ في أي وظيفة، إنما المستقبل في الشخص الذي يشغل هذه الوظيفة.
فالتحجج بالفشل والكسل هو سمة الراضخين للواقع.
وعليه كل نوافذ العمل مُتاحة للجميع، رغم قلتها لكن الثابت والأصيل هو البحث واستعداد النفس، لبث روح العمل دائمًا فيها؛ لأنها الفيصل الوحيد من عدم وضع الإنسان في خانة الخمول، والكسل، واليأس.

تحديات اقتصاديَّة
يقولُ الخبير الاقتصادي، عماد عبد اللطيف، في بحثه الخاص والموسع عن التحديات الاقتصادية للشبان، ومعاناتهم في سوق العمل: "لا تقفُ التحديات الاقتصادية التي تواجه المجتمع العراقي بمختلف فئاته - وخاصة فئة الشبان فيه- عند محدودية التشغيل وخلق الوظائف مقارنة بحجم البطالة المطلق، أو ارتفاع وانخفاض معدلاتها النسبية.
حيث إن عملية صنع السياسة في هذا الإطار يجب أن تتجاوز مقارباتها المُبسطة المعمول بها حاليًا وعلى نطاق واسع. وأن تحاولَ النفاذ من السطح، حيث لا يوجدُ في الأفق غير استحداث الوظائف ورصد تخصيصاتها في الموازنة العامة للدولة، إلى حلول أكثر جدوى، تتجاوز ولو قليلًا، الفهم السائد لأزمة التشغيل والبطالة. حيث لا تقدمُ الحكومة، ومنظمات أخرى، للعاطلين غير وجبات التمكين النمطية، والتأهيل الإجباري لما يفترض أنه انخراط لاحق في سوق العمل، وبناء جزئي وشكلي للقدرات، وتمويل مشاريع صغيرة ومتوسطة قصيرة الأجل، مبددة للمال العام والجهد الخاص، لا تستطيع توفير الحد الأدنى من متطلبات الحصول على دخل دائم، ولا تمتلك أدنى فرصة للاستدامة".

السوق العالميَّة
لنلقي نظرة على بدايات تشكيل السوق الإلكترونية، في العالم، والتي انطلقت من الولايات المتحدة الأميركية، حينما فُتحَ أكبر متجر عبر الإنترنت، والعائد لـ "أمازون" وهو شركة أميركية للتجارة الإلكترونية، بدأت ببيع الكتب في البداية، ثم توسعت منتجاتها، لتحدث لاحقًا طفرة وثورة كبيرة في عالم التسوق والمتاجر الإلكترونية.
إذ أُسِسَت شركة "أمازون دوت كوم" يوم 5 يوليو/تموز 1994 بولاية واشنطن، وقدمت آلاف السلع في صناعات متعددة كالملابس والإلكترونيات والسلع الرياضية والكتب ومواد التجميل وغيرها، وليس لها مكان على أرض الواقع، لكن لها مخازن تحفظ فيها السلع حتى إرسالها إلى أصحابها على عناوين منازلهم أو عناوين مكاتب شركات الشحن.
ليتناسل هذا المشروع عبر العالم، عبر فتح نوافذ متعددة تدر أرباحًا خيالية على مالكيها والعاملين في هذا المضمار، كل هذا جاء بفضل انتشار العالم الرقمي الواسع، وهيمنته على مفاصل الحياة، إذ غيرَ الإنترنت من الأسلوب والمفاهيم السائدة في العالم، وأدى لنشوء ثقافة وفكر جديدين.

تجاربُ عراقيَّة
تقول روز (45 عامًا)، دبلوم إدارة - قسم مصارف: "أنا أعمل مندوبة للملابس النسائية، وتركتُ البحث عن التعيين في الدوائر الحكومية، لأسباب معروفة للجميع، ولجأتُ لمواقع التواصل الاجتماعي، وفتحتُ نافذة أكسب منها ربحًا ليس عاليًا؛ لأن عملنا مرتبط بالوضع الاقتصادي العام في البلاد". وأضافت: "دخل هذه المهن غير معلومٍ، وغير ثابتٍ، لأنه خاضعٌ لأمزجة الزبائن، كما أن مهنتنا ليست ناجحة 100 % لكنها تتطلبُ مزيدًا من الممارسة وفهم نمط الزبائن وأذواقهم المتعددة، مع ذلك، فإنني أسعى جاهدةً لتطوير نافذتي يومًا بعد آخر".

تطوير المهارات
يعتز ويفخرُ أحمد ثامر (29 عامًا)، دبلوم معهد إعداد المدربين، بتجربته الفريدة بالعمل في مجال الإنترنت، ويعدها من الهوايات التي كان يحلم بها، وممارسة تقنياتها المُذهلة، إذ يقول: "بعد الاتكال على الله، وعلى موهبتي في مجال تقنيات الحاسوب وفنونه، فقد شاءت الأقدار، أن أمارسَ هذا العمل من خلال الإنترنت، وأن أستفيدَ من هذه الموهبة، وأحولها لمشروع ربحي، من خلال استغلالها بصورة صحيحة ومثلى".
ويضيف ثامر: "مارستُ العمل بمجال صيانة الهواتف النقالة، من خلال الإنترنت.
وأصبح لدي الآن مركز لصيانة الهواتف النقالة، فضلًا عن تصليح الهواتف عبر الإنترنت، وفي أي بقعة من العالم. بحكم خبرتي بهذا المجال، وامتلاكي (سيرڤرات) تحكم. وباستطاعتي صيانة (السوفت وير) لأي هاتف عن بُعد".
ويتابع: "أتاحَ لي هذا العالم العجيب، تكوين علاقات وتواصل مع فنيين من دولٍ متعددة، نتبادلُ الخبرات والبرامج الحديثة، ونقدمُ النصح والمشورة فيما بيننا ونحل المشكلات المتعلقة بصيانة الهواتف. ويعد الإنترنت مصدر رزق لي ولأسرتي، حيث من خلاله، طورتُ نفسي وكونتُ أُسرةً ومنزلًا، بفضل هذا العالم الرقمي الواسع".
مُقدمًا النصح للذين يمارسون العمل في الإنترنت، وذلك بتطوير وتنمية قابلياتهم ومهاراتهم الفنية في مجال الحاسوب، وأن يترجموها بفتح مشاريع ونوافذ الكترونية تُعنى بتقنيات الهواتف وصيانتها، تدر عليهم أرباحًا لا يتوقعونها.

لم يرضخ للواقع
لا تفارقُ الابتسامة محياه، ويبثُ الأملَ والتفاؤلَ لجميع من يشاهدهم، بالرغم من ظروفه الاقتصادية الصعبة، وتفاصيل حياته المُرهقة. فبعدما كان يمتلكُ مكتبًا يبيعُ فيه خطوط شركات الاتصال (سيم كارت)، وتتم فيه صيانة الهواتف النقالة، اضطر (عمار 30 عامًا)، إلى ترك محله، والعمل داخل منزله، مُعللًا ذلك بقوله: "بعد خروجي من المحل، لم أترك مزاولة عملي، وبقيتُ أمارسه من خلال منصات التواصل الاجتماعي، وأروج لبضاعتي، مع خدمة توصيل".
ويضيفُ: "العملُ من خلال الإنترنت، أسهل ولا يحتاج لعناءٍ كبيرٍ، مع توفر وسائل الراحة في المنزل، فضلًا عن عدم دفعي لبدل إيجار شهري للمحل، وخط مولد كهربائي، وغيرها من التفاصيل التي ترهق ميزانيتي المتواضعة".
ويختمُ الشاب حديثه، بشعوره بالرضا والقبول من هذه الخطوة وهذا المسار الذي يعمل به، عطفًا على شح فرص العمل في السوق العراقية التي لا تستوعب الشبان العراقيين وطموحاتهم بإيجاد منفذ اقتصادي يَدر عليهم دخلًا
محترمًا ومقبولًا في ظل اهتزازات الواقع الاقتصادي للبلد، وارتفاع الأسعار.

أفعالٌ إنسانيَّة
الناشطة سهاد جابر الساعدي، التي تعملُ في مجال التربية والتعليم، وتديرُ منظمة إنسانية، تتحدث عن تجربتها الإنسانية، عبر نافذتها الإلكترونية، قائلة: "وفرت منصتي، التحفيز والتشجيع للأشخاص المتمكنين مادياً، وذلك في مد يد العون للحالة التي أعرضها، إذ تجدُ صدى وتفاعلًا كبيرين من قبلهم".
وتضيفُ الساعدي، التي تحمل شهادة الدبلوم في الاتصالات والبريد، بالقول: "إن لمنصات التواصل فائدة عظيمة وجبارة، فحين ننشرُ منشورًا، عن حالة مرضية ونجدُ استجابة الأطباء بتقديم المساعدات الطبية والإنسانية مجانًا؛ فهذا الأمر يشعرنا بالارتياح والفخر والثقة والبهجة بشرائح مجتمعنا العراقي، وهي تتسابقُ للتبرع في مجالات مختلفة، حتى وصل الأمر، لتجهيز (العِرسان) وكل مستلزمات الزواج، وبضمنها استوديو التصوير وسيارات الزفاف".
وتختمُ: "كذلك لدعم بناء دور الأيتام والمتعففين حصة كبيرة، في مجال نشاطنا الإنساني، ولا أنسى الإشادة بدور الطبقة الكادحة، والطبقة ضعيفة الدخل؛ التي تهب بالمساعدة في مجال البناء.
فننقذُ أرواحًا، ونغيثُ مسكينًا، ونسد جوع شخص، ونكسي متعففًا، ونبني بيتًا، ونرممُ آخر؛ بفضل منشورٍ على وسائل التواصل الاجتماعي".

كلكم راعٍ
من غير الممكن، ولا المعقول أن يستوعب القطاع الحكومي كل هذه الأعداد المتزايدة - وفي كل عامٍ- من الخريجين وغيرهم، إذا ما علمنا التخمة المتزايدة التي تعاني منها دوائر الدولة ومؤسساتها من الموظفين.
لكن الحكومة مطالبة بإيجاد فرص عمل لهم. ولجوء هؤلاء الشريحة المهمة لسوق العمل الإلكتروني، جاء بسبب انعدام وجود نوافذ اقتصادية تستوعب تخصصاتهم، فبعضهم ينجحُ في تجربته، ويطورها، وآخر يفشل، ومنهم من يحاول، ولا يرمي منديله.
لكن عينه تبقى ترنو لمستقبلٍ زاهرٍ، وواقعٍ اقتصادي صحي لبلاده، يجدُ فيه الجميع -ودون استثناء- فرصهم الحقيقية بالعمل؛ لتهدأ نفوسهم، وتقر عيونهم، بعيشٍ كريمٍ ولائق.