د. عدي حسن مزعل
منذ مطلع القرن التاسع عشر أفضى الاحتكاك بالغرب الذي قدم نماذج فكرية وعملية، أطلع عليها وشاهدها في حواضره البعض من رواد عصر النهضة، إلى جملة من النتائج، كان من بينها أن حقوق المرأة أصبحت عنصراً أساسياً في مشروع النهضة العربي الحديث.
ويظهر ذلك في مؤلفات رفاعة الطهطاوي، وسلامة موسى، وقاسم أمين، وغيرهم كثير من رواد الثقافة العربية.
فالطهطاوي (رائد النهضة العربية الحديثة)، مثلاً، دعا إلى المساواة في التعليم، لأيمانه بأنها تسهم في تحقيق جملة أهداف: الزواج المتجانس، والتربية الصالحة للأطفال، وتأهيل المرأة لتعاطي العمل أسوة بالرجل.
والدعوة هذه وأن تبدو في منظورنا اليوم تقليدية وتنتمي إلى الماضي، فإنها في زمنها تعد ثورية وخلاف السائد.
والمهم أن دعوة الطهطاوي، ومن جاء بعده، ما كان لها أن تبصر النور وتصبح جزءاً من تاريخ الفكر العربي لولا المعرفة بالغرب، وهي معرفة كانت من موقع الضعيف لا القوي، وذلك لاختلال ميزان القوة لصالح الغرب.
ولا يخفى أن هكذا علاقة لها ما لها من آثار على الضعيف، أهمها: (تقليد المغلوب للغالب والولع به)، كما يقول ابن خلدون، وفي هذا التقليد محو لهوية المغلوب واستتباع له، وما زال الأمر كذلك.
والذي نريد قوله: إن للمرأة في الغرب تاريخا خاصا، مثلما للمرأة في الشرق تاريخ خاص، وهو تاريخ يختلف ويتفاوت من مجتمع إلى آخر.
وفي ما يتعلق بالعلاقة بينهما، فإن الجديد الذي حصل بعد الاحتكاك، هو أن جزءاً من واقع المرأة في الغرب، وخاصة واقع ما بعد الحرب العالمية الثانية، وإلى يومنا هذا، وبكل تداعياته من نجاح وفشل، نقل ودمج داخل واقع المرأة في الشرق.
وهكذا، فنحن أمام واقع يتداخل فيه الخاص والمقتبس من حضارة أخرى هي الحضارة الغربية، التي عمدت مؤسساتها السياسية، وحاجاتها الاقتصادية، وأدواتها الإعلامية، وتحولاتها الكبرى في بنية المجتمع، على صوغ صورة وواقع المرأة، الذي يتم الترويج له في الغرب، وهي صورة وواقع غير بريء، وفي الأعم الأغلب ليس من صنع المرأة ذاتها، فما هي سوى أداة للترويج، أداة حولتها حاجات العصر وأهداف الشركات الكبرى إلى سلعة وشيء كبقية الأشياء.
وقد روّج لهذا الواقع وتلك الصورة في مجتمعاتنا أيضاً، التي تعيش ومنذ زمن على صعيد العلاقات الاجتماعية وواقع الأسرة، ملامح التفكك الذي بدأ يسري فيها والميل إلى الفردية يطغى عليها.
وتلك بعض مشكلات الغرب، التي نقلت إلينا تحت مسمى الحقوق، وهي في النهاية من مخرجات الحداثة الغربية واقتصادها الرأسمالي.
ذلك أن الغرب في القرن التاسع عشر ليس الغرب في القرن العشرين، والغرب في النصف الثاني من القرن العشرين - لا سيما بعد الحرب العالمية الثانية - ليس كما قبله، على صعيد التعامل مع ملف حقوق الإنسان عامة وملف حقوق المرأة خاصة، التي لم يكن لها حتى حق الانتخاب في القرن التاسع عشر.
وأعتقد أن نظرة سريعة لملف حقوق المرأة في الغرب ستنتهي بالقارئ إلى أن واقعنا المعاصر، في العالم العربي، يحذو حذو الغرب.
صحيح أنه توجد تصورات مشابهة بين الشرق والغرب، وفي عموم الثقافات حول المرأة في ما مضى، خاصة على صعيد التقليل من قيمتها وعدّها في منزلة أدنى من الرجل، وهو أمر ما زال سائداً إلى اليوم وبتفاوت بين المجتمعات، إلا أن هذه الصورة تغيرت كثيراً في نهايات القرن العشرين.
ومع ذلك، يبقى من الصحيح أن مجتمعاتنا تقلد الغرب في التعاطي مع ملف المرأة، أما برغبة منها لأغراض سياسية أو اقتصادية، ترى السلطة أن من مصلحتها العمل بها والدفاع عنها، بوصفها سلطة تواكب الحضارة والتقدم، أو نتيجة ضغط خارجي يفرض عليها سن القوانين والتشريعات التي تتوافق مع المجتمع الدولي، مع شرعة الأقوياء، وإلا فإن عصا العقوبات أو الحرمان من المساعدات هي الخيار الآخر الجاهز على الطاولة دوماً وأبداً.
صفوة القول: إن الوعي بالحقوق في مجتمعاتنا ليس شيئا مؤسسا في وعينا، شأنه في ذلك شأن التقاليد والعادات التي نتلقفها من بيئتنا ومحيطنا الاجتماعي.
وغياب هذا الوعي له ثمنه، يؤكد ذلك نسب الطلاق المرعبة، كما نقرأ ونسمع عن الإحصائيات في وسائل الإعلام، والتي تصل إلى النصف من عدد الزيجات، حتى أن البعض عدّ هذه الظاهرة أخطر من ظاهرة الإرهاب في مجتمعنا.
ورغم أن هذه الظاهرة الطارئة على مجتمعنا، وليدة أسباب معينة تتعلق بالتربية، والوعي، والتكافؤ بين الزوجين، ولا أنسى وسائل (التواصل الاجتماعي)، فإن ثمة أسبابا أخرى، عادة ما يسكت عنها أو تهمل، منها: روح العصر الذي تطغى عليه نزعة الاستهلاك، وتسليع القيم، والهرولة صوب الجديد من غير تمحيص وتفكر، فضلاً عن دور الإعلام في تكريس صور نمطية وقوالب جاهزة تسطح الوعي وتغيب حاسة النقد لمصلحة السذاجة والتفاهة، صور يراد تعميمها على مختلف بقاع الأرض، وهي في النهاية من تجليات العولمة، وتعبير عن قدرة القوي في نشر ثقافته، بما يسمح له في الهيمنة والسيطرة على غيره (الضعيف).
وتلك هي ثنائية القوي والضعيف، المركز والهامش، المنتج والمستهلك.
وما لم تعد صياغة تلك الثنائية صوب التكافؤ والندية، فإن واقع المرأة في عالمنا سيؤول إلى ما لا يخطر على بال.
وما المظاهر المبتذلة التي غزت وسائل التواصل الاجتماعي، إلا محطة في طريق طويل مستقبله محفوف بالمخاطر، لا على هذه الأجيال التي تركت تلك المظاهر آثارا فيه، وإنما على الأجيال القادمة التي سيكون حاضرها هو ماضي الغرب في انفلاته وإباحيته.