حازم رعد
يطنب جملة من المشتغلين في حقل الفكر الفلسفي في جعل الافكار الفلسفية أكثر تجريداً وتعقيداً، باستخدامهم أثقل الجمل الفلسفية وامتنها، ما يجعل استعداد فهمها وانطباقها على الواقع صعباً جداً «ثقل المفهوم يعني صعوبة فهمه وتفكيكه مما يجعله معوقاً أمام الفهم الصحيح والوضوح»، فالاستغراق في التجريد استغراق في القطيعة مع الواقعية ومفارقة للعالم الواقعي وهذا المعنى قريب مما يطلق عليه في الفلسفة بالعائق المعرفي.
بينما انتاج فلسفة جيدة يعتمد أولاً على نوع وعمق الأفكار، التي تحكم ذهنية من يشتغل على انتاجها وتشكل هاجسه وطموحه العام، فإن للذهنية التي تصنع الافكار والمفاهيم الأثر الكبير في جدتها وقوتها، وثانياً على الاتجاهات الثقافية السائدة في تلك البيئة انتجت فيها الفلسفة، وتعتمد ثالثاً على الأدب في تلك البيئة، فهو الذي يعطي الافكار صورتها الشاعرية المؤثرة في وجدان المتلقي الذي هو متفاوت في الادراك والفاهمة.
لذا نلحظ الفلسفة في كل مرة تطل علينا، باعتبارات تختلف عن سابقتها، وعن غيرها التي قد تكون مزامنة لها من التي تنمو في بيئات ثقافية وظرفية وفضاءات أخر، وليس معنى ذلك أن للبيئة والمناخ والظروف التأثير المطلق في الفلسفة، بل قد تكون الأكار مؤثرة في البيئة التي تتدفق فيها، ولكن ما ينبغي تفهمه، أن الفلسفة نتاج عصرها، وكذلك هي روح بيئتها، وايضاً هي بنت المدينة، ونتاج آراء الفلاسفة واعتباراتهم التي يرونها مناسبة كبدائل لمشكلات وصعوبات سائدة.
إن الفلسفة من حيث المبدأ واحدة، إذ هي كما أجد من المناسب تعريفها [التفكير عقلياً في العالم والاشياء]، ولكن المختلف والمتعدد هما الافكار ووجهات النظر والحلول المقترحة، وهذا راجع إلى الاختلاف الذي ذكرناه في البيئات والثقافة والضروف العامة.
لذا نلاحظ وجود اختلافات عديدة في منهج واسلوب وأهداف الفلسفة البرغماتية، التي تحكمها العقلانية الأداتية واعتبارات المنفعة، والتي جاءت منسجمة مع طبيعة المجتمع الامريكي، الذي هو كما يقال عادة خليط من عدة الشعوب، فجاءت هذه الفلسفة متوائمة مع ثقافة وبيئة وظروف هذه الجغرافيا والمجتمع والثقافة العملية السائدة، عن الفلسفة الماركسية التي تحكمها قوانين الديالكتيك وصراع الطبقات وجهات النظر التي بوبت نمط عيش المجتمع الصناعي ومعاناة العمل وبؤس المعيش في ظل سيطرة رؤوس الاموال وسحق باقي الطبقات. إذ إن فكرة كارل ماركس ترى أن أسس المشكلة الاجتماعية وتزايد معاناة الإنسان كامنة في حصر رأس المال عند طبقة رأسمالية، وإن الحل في تأميم الشركات الصناعية وجعل ادارتها بيد الحكومة المركزية، وأن يعمل الجميع من اجل الفرد والعكس صحيح ايضاً.
هذه الفلسفة كما نرى فيها اختلافا شاسعا عن البرغماتية، ومثل تلك الفروق والاختلاف عين ما نشاهده ونلحظه في كلا الفلسفتين السابقتين عن الفلسفة الاسلامية، التي تجد الجدوى في البحث عن المطلق الذي هو نقطة التغيير، ومثار التأثير في العالم وتمازج بين النظر والعمل هذه الفلسفة التي جاءت معبرة عن وجدان وفاهمة المجتمع، الذي ينشد البحث المطلق واشباع عطشه الوجودي، ولكن ما يعنينا أن كل تلك الفلسفات تشترك في قيامها على العقل فهو مصدر المعرفة والاساس والمنهج المعتمد في البحث والتحليل والنقد وتركيب الافكار وتبقى صياغة خطابها رهين مقارباتها الخاصة. فكل تلك الفلسفات تشترك في تناولها بحث الاشياء والافكار على العقل، ولكن رؤاها وأساليبها وأهدافها مختلفة، ويمكن لأي فلسفة أن تنال حظاً من الاخرى في تطوير مقارباتها واجاباتها، لأن الهدف هو أن يكون النشاط العام محكوما بالعقل، ليسهم في جعل الواقع أكثر عقلانية وعلمية وواقعية.