التوحد.. اضطرابُ مؤقتُ يحرقُ مراحل من العمر

ولد وبنت 2023/08/14
...

 عواطف مدلول و سرور العلي 

وصل لحالة ميؤوس منها بعد سبع سنوات من سلسلة علاجات خاطئة، منذ أن تم تشخيصه بعمر مبكر (سنتين) بأنه مصاب بصرع وراثي، فبدأت رحلة الأهل مع المراجعات الطبية والأدوية والأمل المفقود بالشفاء، وبمرور الزمن، وعلى الرغم من بلوغه التسع سنوات بقي وكأنه ذلك الطفل، الذي ولد منذ سنتين يحمل التصرفات والإدراك نفسها.

كل أنواع المهدئات والمسكنات التي كتبها الأطباء له لم تستطع أن تمنع، أو تخفف نوبات صراخه وعدوانيته، وتمتص غضبه حتى أثناء النوم أحيانا، واثر ذلك في نمو جسمه الذي بدا هزيلا لدرجة لم يعد بامكانه الوقوف على اقدامه، ويصعب عليه التكلم والتعبير عما بداخله، مكتفيا فقط بحركات راسه ويديه ونظرات عينيه التي تحلق إلى الأعلى بشكل دائم. 

لم يحصل على التشافي إلا بعد أن تعرفت والدته على الدكتورة حنان ياسين اختصاص دبلوم تغذية علاجية استاذة في جامعة بغداد، ونقلت لها بعض المقاطع الفيديوية، التي تصور فيها سلوكياته الغريبة، التي كانت تثير قلقها وتحزنها، حتى كرهت حياتها قهرا على ابنها، الذي حرم من الدخول مع أقرانه للمدرسة كونه مختلفا عنهم.

تقول الدكتورة حنان ياسين: العلاج تم بثلاث مراحل، حيث كانت أول خطوة وضعتها لذلك الغرض، هي العمل على تنظيف جسمه من تسرب الأدوية ومخلفاتها الضارة، وسحب السموم من الكبد والسيطرة على صبغة البيليروبين التي تفرز من الكبد، وتؤثر في عمل الدماغ وبالتالي في الجهاز الهضمي. 

اما المرحلة الثانية معالجة فقر الدم والنحافة وهشاشة العظام التي كان يعاني منها، في حين المرحلة الثالثة تضمنت إرجاع التنظيم إلى الجهاز العصبي ليعمل بصورة سليمة، والنتائج كانت جيدة حيث من أول شهر بدا الطفل يستجيب ويتغير، وذلك كان واضحا اذ قل صراخه وكذلك خفضت حركته المفرطة، والنوم اصبح طبيعيا لديه، والمهم بالموضوع هو  التجاوب مع الاخرين كلما تمت مناداته باسمه، حيث لم يكن ينتبه لذلك سابقا، ساعده بالوصول لتلك المرحلة المتطورة من الشفاء، تقديمنا له التمارين اللغوية العصبية، كي يتفاعل مع محيطه من حوله إلى جانب اختيار الغذاء المناسب له.   

تضيف ياسين: إن برنامج التشافي استمر كورسا كاملا لمدة ثلاثة اشهر، فغالبا ما تحتاج تلك الامور إلى كثير من الصبر، وربما لفترات طويلة، خاصة أن الطفل متعرض لبروتوكولات علاج خاطئة وتجريبية أدت إلى وصوله لمرحلة العوق التام.

موضحة أن أهم سبب لنجاح أي علاج هو التشخيص الدقيق والصحيح، الذي على أساسه يتم وضع البرنامج الذي يلائم المصاب.

وعن الاعمار المتقدمة من حالات التوحد بسن المراهقة، اشارت إلى أن المتابعة المستمرة يمكن أن تحقق الشفاء، وذكرت حالة بنت بعمر 13 سنة كان قد راجع أهلها كثيرا من الأطباء حتى سافروا بها للهند، لمعرفة طبيعة ما يجري معها وسعيا لانقاذها من وضعها السيئ، ولكن مع الأسف في النهاية تم تشخيصها بحالة تخلف عقلي شديد، وقد لاحظت عائلتها عليها بعض الأعراض ومنها عدم الاستماع للآخرين، خاصة أفراد أسرتها، حيث تنفذ ما ترغب به وتريده دون وعي، واذا اعترض أحد طريقها أو انتقدها وحاول منعها وتقديم النصح لها، فإنها تصاب بنوبة هستيرية من العصبية، وتدمر كل شيء أمامها، كما أنها لا تعرف أن تستقر بمكان واحد،  ولا يمكنها أن تستسلم للنوم بسهولة الا بالحبوب المنومة، بحث تقول والدتها في إحدى المرات استمرت لمدة عشرة ايام بدون ان تخلد للنوم لعدم إعطائها تلك المهدئات.

تبين الدكتورة حنان هذه الحالة كان علاجها سهل لان البنت لديها تفاعل قليل، لكنها لا تتكلم ومجرد تتلفظ بكلمات ماما وبابا وبصعوبة جدا، الغريب انها اذا امسكت أي شيء (شائك) لا تتركه الا وقد فكت عقده ورتبته، بنمط فريد ودقيق جدا، حتى لو استغرق منها ذلك وقتا وساعات طويلة. 

مؤكدة أن معظم الحالات لا تتشابه، لكنها تصنف تحت تسمية واحدة (التوحد) للتقارب في الأعراض المشتركة، لذلك وصفت لتلك البنت (الديتوكس)، حتى تزيل من جسمها آثار المهدئات والحبوب المنومة، ومنعت عنها اللحوم الحمراء نهائيا والسكريات، لأنها تؤثر في عمل الجهاز العصبي، وتضمن العلاج ايضا بعض المكملات والنباتات الطبية وكذلك الاعشاب التي تعمل على تهدئتها، ووقف المسكنات تماما عنها، مع التمارين التي تطبقها لها أسرتها، ومنها مثلا أن يجلبوا لها لعبة اللغز التي هي عبارة عن قطع صغيرة، ويتركوها امامها لتعيد ترتيبها، ومن بين التمارين ايضا أن يتم سماعها نطق الأحرف، ويسمحوا لها بمشاهدة برامج الأطفال التعليمية حتى تبدأ بتقليدهم والتعلم منهم. 

النتائج كانت مرضية بنسبة عالية، وبزمن قياسي، وما زالت تحت المتابعة، فالمهم بالموضوع أن تتكاتف الجهود من قبل الأهل والمختص لتحقيق الشفاء التام للمتوحد.  

من جهته يشرح د.عبد الكريم خليفة، استشاري نفسي واجتماعي اضطراب التوحد، بأنه عبارة عن حالة ترتبط بنمو الدماغ، وتؤثر في كيفية تمييز الشخص للآخرين، والتعامل معهم على المستوى الاجتماعي، ما يتسبب بوجود مشكلات في التفاعل والتواصل الاجتماعي، إذ أنه يتضمن أنماطا محددة ومتكررة من السلوك، مثل صعوبات في العلاقات مع الآخرين، وكذلك في اللغة، وهذه مظاهر تحدد اضطراب التوحد، وأول من اكتشفه هو العالم الأمريكي من أصل نمساوي  ليو كانر عام 1943، إذ وجد بعض الأطفال لا يعانون من التخلف العقلي، لكن لديهم صعوبات في التواصل الاجتماعي، والعالم الآخر هو هانز آسبرجر، اكتشفه عام  1944 ، ويؤخذ لديه أربعة اضطرابات، وهم متلازمة آسبرجر، ومتلازمة ريد، وطيف التوحد، والتوحد.

مضيفاً "زيادة أعداد المصابين بالتوحد في السنوات الأخيرة في كل دولة ومكان، لها أسباب مختلفة، ففي هولندا تختلف عما موجود في بريطانيا وفي العراق أيضاً، لكن هناك اسباب متعددة، ومنها عوامل وراثية وبيئية، وكذلك انتشار المواد الحافظة، والاستخدامات الخاطئة للأدوية، واضطرابات في الدماغ، ومشكلات الحمل، ونلاحظ في الآونة الأخيرة وجود الاشعاعات والرصاص في الجو، ما أدى إلى زيادة ظهوره، كما أن استخدام المراهقين للهواتف المحمولة والوسائل الحديثة أبعدهم عن التواصل والمهارات الاجتماعية، التي تنتج عن النمذجة أو محاكاة سلوك الكبار".

ويشير خليفة إلى أنه لكون التوحد ليس مرضا بل اضطراب، وبالتالي عملية استخدام الأدوية ليست بالعلاج الصحيح، لذلك يعتمد بشكل اساس على العلاج السلوكي المعرفي، ويركز هذا النوع من العلاج على تطوير المهارات الضرورية وفق السلوكيات الخطأ، ومن أنواع هذه العلاجات هي، أولاً تحسين السلوك التطبيقي في بداية الأمر، بواسطة بعض المعايير أو المقاييس، التي تحدد السلوك الخاطئ أو الذي يحتوي على قصور، وثانياً تحسين المهارات الاجتماعية وهذا مهم جدا، وثالثاً زيادة قدرات التفاعل، لأن كل المراهقين الذين يعانون من التوحد، لديهم صعوبة في التواصل السمعي أو البصري، وهذا تشخيص ظاهري يمكن لأي شخص ملاحظته، وأيضاً ضرورة تطوير مهارات اللعب والحركة، لصعوبة تركيزهم، كما من المهم تطوير المهارات التعليمية، كونها بطيئة لديهم.

اما زينب باسم محمد، أخصائية منهج هيلب، دبلوم تربية خاصة وتكامل حسي، ومدربة لأطفال اضطراب طيف التوحد، لفتت إلى أن تشخيص هذا الاضطراب يعتمد على محكمات كثيرة ومنها، وجود خلل مستمر في التواصل والتفاعل الاجتماعي تحدث في سياقات متعددة، وتظهر، سواء الآن أو في التاريخ الشخصي متمثلة في ما يلي، ‌‎عيوبا في تبادل المشاعر الاجتماعية، وتتراوح علـى سبيل المثال ما بين إبداء طرق شاذة اجتماعيا، والفشل فـي تـبادل اطراف الحديث، إلى قلـة المشاركة في الاهتمامات والانفعالات والوجدان، وعدم القدرة على البدء أو الاستجابة للتفاعلات الاجتماعية وعيوب في سلوكيات التواصل غير اللفظي المستخدمة في التفاعل الاجتماعي، ما بين افتقار التكامل ما بين التواصل اللفظي وغير اللفظي إلى اضطراب  في التواصل البصري، ولغة الجسد أو خلل في فهم واستخدام التلميحات الجسدية، وصولا إلى افتقار كلي للتعبيرات الوجهية والتواصل غير اللفظي، ‌‎وعيوب في بناء واستمرار وفهم العلاقات، تتراوح على سبيل المثال، ما بين صعوبات في تعديل السلوك ليناسب السياقات الاجتماعية المتنوعة، إلى صعوبات في مشاركة اللعب التخيلي أو إقامة الصداقات، وصولا إلى غياب الاهتمام بالأقران.

وأضافت "هناك أنماط محدودة ومتكررة من السلوك والاهتمامات أو الانشطة، تبدو في اثنين على الأقل، سواء في الوقت الحالي أو في التاريخ الشخصي للفرد، ومنها قوالب حركية أو حركات جسدية متكررة، في استخدام الأشياء أو الكلام، مثل الرفرفة باليد أو المشي على أطراف الأصابع، ووضع اللعب في صف، وقلب الأشياء بتدويرها، وإعادة الكلام أو تكرار الجمل، والإصرار على التماثل، والالتزام الصارم بالروتين، أو الطقوس النمطية للسلوك اللفظي وغير اللفظي، ومنها، الضيق الشديد بسبب التغييرات الطفيفة، أو صعوبة التحول أو التغيير، أو أنماط التفكير الجامدة أو الحاجة إلى أخذ المسار نفسه، أو تناول الطعام نفسه كل يوم، كما هناك اهتمامات محددة ومستمرة للغاية، وغير طبيعية في الشدة أو التركيز، كالالتصاق القوي أو الانشغال المستمر بأشياء غير معتادة، أو اهتمامات شديدة التقيد أو متحفظة للغاية، والنشاط الزائد أو قلة النشاط رداً على المدخلات الحسية، أو الاهتمامات غير المعتادة في الجوانب الحسية في البيئة، كعدم وجود استجابة واضحة للألم أو الحرارة، واستجابة عكسية، ردا على أصوات معينة أو ملمس معين، لمس متزايد أو شم متزايد للاشياء، والافتتان البصري بالأضواء أو الحركات، وتتحدد الشدة للأعراض السابقة، وفقاً لشدة الاضطراب ومدى محدودية وتكرار الأنماط السلوكية".

وأكدت محمد "يجب أن تكون الأعراض موجودة في الفترة المبكـرة مـن النمو، ولكنها قد لا تظهر بشكل كامل، حتى تصبح المتطلبات الاجتماعية أكبر من القدرات المحدودة لدى الفـرد، أو قـد تكون مغلفة بستراتيجيات التعلم في مراحل الحياة التالية، وأن تتسبب الأعراض في حدوث اضطراب واضح في الحيـاة الاجتماعية والمهنية، أو أي مجال مهم آخر فـي التوظيـف النفسي حاليا، ومن الأفضل ألا يكون تفسير هذه الاضطرابات بعزوها إلى الإعاقة العقلية أو اضطراب الارتقـاء العقلـي، أو بعزوها إلى تأخر كلي في النمو والارتقـاء، إذ ‌‎كثير ما يكون هنـاك حـدوث متـزامن للقصور العقلـي واضطراب طيف التوحد، ولكي تضع تشخيص التشارك في الحدوث لهما، يجب أن يكون مستوى التواصل الاجتمـاعي أقل من المتوقع بالنسبة للمستوى العام للارتقاء (أقـل مـن مستوى نسبة الذكاء المعتاد)، ‌‎ويجب أن يتم تحديده، ما إذا كان  بدون اضطراب ذهني(عقلي) أو بدون اضطرابات في اللغة، ومرتبط بحالة طبية أو جينية أو عوامل بيئية، ومرتبط باضطراب نمو عصبي أو عقلي وسلوكي، ويكتشف التوحد في السنوات الثلاث الأولى، إذ يظهر في ضعف القدرة على التواصل والتفاعل مع الآخرين، وليس هناك سبب معروف، لكن من المؤكد أن الوعي، وتقديم الخدمات سيعملان على رفع الوعي لدى الأسر، ولا يوجد علاج شافٍ للتوحد، لكن التشخيص والتدخل المبكر يؤديان إلى نتائج أفضل بكثير.

يكشف خالد لطيف كاظم مدير معهد البراء لاطفال التوحد في محافظة ذي قار عن أن الحالات التي جاءت للتدريب لديهم، هي طيف التوحد والفرط الحركي والتواصل البصري، وغيرها تقريبا بحدود خمس حالات، موضحا: قد يصاب الطفل على اثر حدوث مشكلات بين الأبوين خاصة عندما تضرب الأم امامه، وذلك تسبب له صدمة، وهناك من تحدث له أثناء الولادة، اذا كان لديه (ابو صفار) حاد، وعادة ما يعرف المصاب من قبل الأهل بالسنة الثانية أو الثالثة من عمره، فيكون انعزاليا ونطقه لا يتم بصورة صحيحة.  

ومن ناحية الغذاء البديل له، هناك المسموح كالمكسرات الكازو وجوز عين الجمل لتنشيط ذاكرته، والفواكه واكليل الجبل، وبعض الفيتامينات التي توصف له من قبل الطبيب، اما الممنوعات الحليب بمشتقاته والأجباس والعصائر، لانها تحتوي على مواد حافظة ترفع المعادن بالجسم، كالرصاص، فتكون مضرة وتنعكس على حركة الطفل التي تصبح كثيرة وقوية، وكذلك الخبز والصمون ايضا والرز يفضل ان يطبخ على طريقة البزل، لأن فيه مواد نشوية، وكذلك ننصح بعد استخدام الموبايل ومتابعة التلفزيون، لانها تشتت الذهن وتضعف التركيز عنده 

ويضيف: المشكلة أن بعض الأسر نوجهها بتلك الاشياء، لكن نتفاجأ بأنها تأتي في الصباح بابنها، ومعه قطعة من الكيك والعصير،  فأغلبهم لا يلتزمون ويحاولون أن يتخلصوا من ازعاج الطفل باعطائه الطعام غير الصحي والموبايل حتى ينشغل به، وبعضهم يعتقد أن المصاب  ينبغي ألا يختلط حتى لا يسبب لهم مشكلات، وذلك عكس ما ننصج به اذ يفترض ان يندمج ويخرج من عالمه، ويجب أن تمنح له فرصة الانطلاق بالمتنزهات والسفرات مع مراقبته  من دون تقييد، ومن الضروري عدم اللجوء لضربه إذا بدر منه تصرف أزعجهم، لأن حالته سوف تتفاقم نحو الأسوأ.  

 كما أن هناك حقيقة نعاني منها تكمن في أن تلك الشريحة منسية، لعدم وجود اهتمام بها من قبل الجهات المختصة، رغم مساعينا في ايصال صوتنا للتوعية، من خلال الندوات والمحاضرات التي نحضرها والبرامج التي نضعها ونخطط لها.  

ويبيّن كاظم منذ تاسيس المعهد سنة 2016 استقطبنا معلمات ومدربات خريجات علم النفس، ويتمتعن بخبرة جيدة بهذا المجال، وبوقتها كانت نسبة المصابين بالمحافظة بحدود سبعمئة حالة، وبحسب الإحصائيات الأخيرة وصلت الآن بحدود الخمسة آلاف، وقد كانت الناصرية سابقا تضم مركزين فقط، والآن اصبح فيها 

سبعة أو اكثر.

ويذكر مختتما الجانب الايجابي بالموضوع وهو أن هناك من وصل لمرحلة التشافي التام، والتحق بالمدرسة حاله كحال بقية أبناء جيله، وأضحى في صفوف الأوائل.