د. جبار خماط حسن
تحاول الفنون أن تخلصك من شراك الواقع المازوم، بفرضية جمالية لها بنيتها وايقاعها الذي يخرج لنا بواقع جديد له زمان ومكان وابعاد إنسانية، تسمح لنا أن نعيش لحظات متخيلة جديدة، نلتذ بها، نخزنها في ذاكرتنا طويلة الامد، نواجه بها موجة السبات الفكري والشعوري.
الحديث في الايقاع، له طبقاته المتنوعة، بحسب تطور المعالجات المسرحية، منذ الشعائر والطقوس، مرورا بالعروض التي تحمل في بنيتها، حياة النصوص الدرامية، وصولا إلى ما بعد الدراما وما بعد الحداثة، كلها تعمل بإيقاع يخالف ايقاع الحياة من حولنا، لان الفن بذاته، خبرة متخيلة يراد منها العيش في وعي وحواس الجمهور، هذه الحياة لا ديمومة لها، لأنها تتوقف مع نهاية العرض، لتستمر مع الجمهور على نحو خبرة حسية - فكرية، تعيش مع الناس بعد للعرض، على نحو سلوك جديد، فيه من التناغم ما يحقق توازنا سلوكيا مع الاخر والبيئة المادية المحيطة بنا .
هل الايقاع في العرض المسرحي حرٌّ أم مقيد؟ سؤال في فقه الإخراج، لأنَّ فهمه والدراية فيه، يحقق ايقاعا مرنا، يسمح للجمهور أن يكون شريكا في صناعته، فالجمهور، شخصية خارج إطار التمسرح، لها ملامح غير ثابتة، اقناعها بثبات التواصل والانتباه والتفاعل، يحدده ايقاع الرسالة المسرحية، إذ يكون متماسكا في تكوينه، كان رجع الصدى أو التغذية الراجعة من الجمهور ايجابية .
قالوا في الايقاع بانه ‘’توزيع الزمان على المكان” هذا يعني، أن الثابت هو المكان والتحول هو الزمن، انتبه الرمزيون لهذا التعريف، فاعطوا لكل جملة ايقاعا وتكوينها الخاص، ولهذا تحرر الشعر من القيود التي كبلت اللغة بأنساق الوزن والقافية قوامها الصنعة وليس الابتكار
والابداع.
يقول شيشرون “المسرح مرآة للحقيقة، وهذا تطور وانفلات من قبضة مفهوم ارسطو للمحاكاة التي ربطها بالطبيعة المادية والبشرية، فالحقيقة التي دعا لها شيشرون غير ثابتة، لأنها تخضع لضرورات الواقع وتحولات فهمنا لما يجري من حولنا، ولهذا ثمة تصور فردي يؤمن به شيشرون، أي لكل إنسان حرية فهمه وتعبيره عن الواقع، وهذا ما آراه في صميم علم المسرح الذي يؤمن بالفروق الفردية للشخصيات داخل العرض المسرحي، إذ نجد أن لكل شخصية مسرحية كينونتها المستقلة، ومن ثم لكل شخصية ايقاعها الخاص الذي يصب في الايقاع العام للعرض
المسرحي .
لقد اوجد السويسري (ادولف ابيا) توجها مغايرا لما كان سائدا، إذ اهتم بالوحدة الايقاعية العناصر المنتجة للصورة المسرحية، فلا افضلية للعنصر البصري أو السمعي أو الحركة، كلها ضرورية لا نتاج الاثر الايجابي .المطلوب في الجمهور، إذ ثمة مقولة كلية تتحكم وتتفاعل مع المقولات الجزئية التي تحملها الشخصيات نجدها مسرحيا، في حالة صراع، لكنها لا تخرج عن قوتين متعادلتين، ادوات عملها وظهورها تتباين مع مساحة الفعل وتأثيره. هنا يكون توزيع الطاقة الايقاعية للفعل المسرحي متباينة ومتنوعة على الشخصيات داخل البيئة المسرحية، للوصول الى الايقاع الحر الداخلي، الذي يتركب مع بعضه باشتراطات المعالجة الاخراجيّة التي تعمل على ضبط ما يدور داخلها من ايقاعات السمع والبصر والحركة، وما يمكن أن نطلق عليه، الايقاع الخارجي المقيد .
لو أحصينا التحولات في الأسلوب المسرحي من الكلاسيكية الى ما بعد الحداثة، نجدها تعمل على ذات العلاقة ما بين الايقاعين الحر والمقيد، او الايقاع الداخلي والايقاع الخارجي، الاختلاف والتباين، تزداد نسبته وتقل تبعا للمزاج الفكري والتحولات التاريخيّة والتأثيرات الاسلوبيّة من الفنون المجاورة الخارجية، نجدها قليلة في الكلاسيكية والواقعية وكثيرة في الرومانسية والتعبيرية واللامعقول وما بعد الحداثة، كلما كانت المعالجة الاخراجية لا تعمل بالوحدة في الشكل كلما زاد الايقاع الداخلي للعناصر السمعية والبصرية والحركية، مثل ما نجده في عروض ما بعد الحداثة، إذ تهشيم الشكل، وهيمنة الجزئيات البصرية والسمعية وتفاعلها مع التقنيات لإبراز أو اخفاء المضامين، الافكار لديهم مجردة وليس تقريرية خطابية مثلما نجدها في الكلاسيكية.
نعود الى الجمهور تلك الحلقة المفقودة في الاعراف المسرحية، دوما نجده في قعر القائمة من الاهتمامات، حتى نطلق على (جنرال بروفه) عرضاً من دون جمهور، وكأننا انجزنا ما علينا، والباقي على الله الواحد القهار، وهذا يعطي تصورا مغلوطا للحياة المسرحية ، فالجمهور هو الحد الرابع، يكون معك من جلسة الطاولة للقراءة الى نهاية العرض الاخير الذي نعلن بعدها توقف عرضه، من الضروري تعديل العلاقة ما بين اصحاب العرض من مخرج وممثلين وفنيين والجمهور، لأنَّ المعادلة المسرحية لا تبدأ من النص، بل من الجمهور، ما يريد، وكيف نتواصل معه، وهل نحقق ضمانية التأثير مستقبلا، بهذه الاسئلة تبدأ العلاقة السرية أولا، التي تتحول علانية حضور الجمهور لمشاهدة والتواصل مع العرض المسرحي.