كمال انمار
أخذ مبحث النفس وأصلها في الفلسفة الإسلامية اهتماماً كبيراً كما أخذ في الفلسفة اليونانية. ولَعل ما جاءَ به أفلاطونَ كانَ الأقرب للرؤية الإسلامية من غيره حيث كانَ يرى النفس بحد ذاتها بأنها جوهر إلهي مثالي وقد ضمنت هذه الرؤية في نظرية المثل. وكانت هذه الرؤية العاجيّة تمثل النقيض لما ذهب إليه أرسطو الذي كان يرى أن {النفس ليست مستقلة عن البدن، بل على العكس إنما قوامها البدن} وكذلك ذهب الإسكندر الافروديسي شارح أرسطو.
وبسبب الطبيعة الدينية المهيمنة حاولَ مشاهير الفلاسفة المسلمين قدر المستطاع الجمعَ بين إلهية النّفس والرؤية المادية لها، تأثرا بما وصل إليهم من ترجمات فلاسفة اليونان، فنجد أن ابا يوسف الكندي يعرّف النفس تارةً على انها "تمامية جرم طبيعي ذي آلة قابلة للحياة" وتارةً أخرى يعرفها بأنها "جوهر إلهي روحاني بسيط لا طول له ولا عمق ولا عرض وهي نور الباري" مناقضاً تعريفه الأوّل وهو يقول إنّ للنفس ثلاث قوىً كما قال أفلاطون وهي النفس الشهوانية والنفس الانفعالية والنفس العاقلة، ويذكر الكندي أن للنفس قوتين متباعدتين هما القوة الحسية والقوة العقلية وبينهما قوة وسطية.
في الجهة الأخرى نجدُ أن جابر ابن حيان -وكذلك فعل ابو حامد الغزالي و ابو بكر الرازي وابن سينا مع اختلافات تفصيلية مهمة - لا يقوم عند تعريفه للنفس بالاعتماد على التفسير الأرسطوطاليسي لها كما فعل توفيقيا الكندي، بل ويعارضه تماماً ويرى إن النفس "جوهر إلهي محُيِّ للأجسام التي لابستها".
ويعلّق الفيلسوف المغاربي محمد عابد الجابري في كتابه نقد العقل العربي على تعريف ابن حيان هذا، بإنه وغيره من التفسيرات مما حذا حذوه بعض الفلاسفة المسلمين إنما هو نتاجُ التأثّر بالهرمسية الغنوصية.
وبيّن في مشروعه كيفَ دخلت عناصر اللامعقول وأخذت مكانها في التراث الإسلامي الفلسفي والصوفي والبياني، كما و شرح أصول التأثيرات الهرمسية وعرّج على الفيلسوف نومنيوس الأفامي، وأعلن أن "العقل المستقيل أول ما اتصل به العرب من عناصر الموروث القديم".
أما فيلسوف الإسلام ابو نصر الفارابي فقد عرّف النفس كما عرفها أرسطو، ولكن تعريفه هذا يرتبط بنظرية الفيض الإلهي الأفلوطيني الذي تأثر به وأخذ عنه و"طوّر نظاما تراتبيا عمليا مستفيدا من المنظومة الأفلوطينية نفسها، ولكنه يوجهها نحو مشروعه العملي الأخلاقي والسياسي". وقسّم الفارابي النفس تقسيماً لا يشبه التقسيم الأفلاطوني المتعارف، وقال إنها ثلاث: وهي أنفس الأجسام السماوية، وأنفس الحيوان الناطق، وأنفس الحيوان غير الناطق، وبذلك هو يختلف عن الكندي وبالتالي أفلاطون في مضمون
تقسيمه.
أما أكثر الفلاسفة تأثيراً في الغرب أبو الوليد إبن رشد الذي عرف بالشارح الأكبر لأرسطو والذي عرف تياره بالرشدية في أوروبا القروسطية، فقد كانَ يقول إن "الكلام في أمر النفس غامض جدًّا، وإنما اختص الله به من الناس العلماء الراسخين في العلم ولكن في تعريفه للنفس لم يخرج ابن رشد عن غيره ممن سبقه من الفلاسفة المسلمين فقال إن "النفس هي صورة لجسم طبيعي آلي فكل جسم مركب من مادة و صورة و كانت الصورة في الحيوان هي النفس".
ومما يذكر هنا إن ابن رشد وعلى خلاف غيره ركز على أدلة جديدة تثبت وجود النفس وذكرها و شرحها مستفيضا في كتابه "الكشف عن مناهج الأدلة". وأذكر منهما على سبيل المثال دليلين هما: دليل العناية ودليل الاختراع.
مما تقدّم نستنتجُ أنّ الرؤية التي عالجها الفلاسفة المسلمون إنّما هي خليطٌ من الإبداع والتأثّر وهي بذلك لا تخرجُ عن مبادئ التأثّر والتأثير الحضاري. لاسيما وإنّ الفلاسفة في الحضارة الغربية قد نهلوا الكتب العربية مما تُرجم إليهم واخذوا منها وفهموها ولاحقاً طوروها
تجريبيا.
ولعلّ ما قدّمه العالم إبن الهيثم خير دليل وشاهد. ويصفه المؤرخ جورج سارتون على أنه أعظم عالم فيزيقي مسلم.
وقد كانت إنجازاته حول نظرية انعطاف وانكسار الضوء وانتقاله إلى العين وتشريحها من أهم ما أنجزه، بل وأنه درس الظواهر الجوية والرياضية وعالج في مصنفاته الهندسية مسائل قالها اقليدس وارشميدس وأبتكر لها حلولا ومعالجات، ويشرح كتاب رشدي راشد "علم الهندسة والمناظر في القرن الرابع الهجري" بعض مصنفات ابن الهيثم الهندسية، مثل صنعة الاسطرلاب وفصول من كتاب المناظر ورسالة في الكرة المحرقة.