خير نظام الحكم وأفضل طبقات الحكم

آراء 2023/08/16
...

 أ.د عامر حسن فياض

قدم ارسطو وصفاً تصنيفياً لأنظمة الحكم، وتجلت رؤيته الواقعية وموضوعيته وأدواته المنهجية، التي تضمنها كتابه (السياسة) وفي نهج المقارنة التي تضمنها كتابه (الدساتير) فاستخدم معيارا مركباً، اجتمعت فيه العناصر الكمية والكيفية والبنوية لظهور فكرته حول النظام السياسي الثنائي المختلط، بوصفه أفضل الأنظمة السياسية الواقعية.

على وفق المعيار الكمي صنف أنظمة الحكم استناداً لعدد من بيدهم مقاليد الحكم والسلطة (حكم الفرد – حكم القلة/ النخبة – حكم الكثرة/ الاغلبية)، وعلى وفق المعيار النوعي الكيفي صنف أنظمة الحكم، استناداً لعدد من تخدمهم سلطة الحكم (أنظمة تحكم لمصلحة الفرد – أنظمة تحكم لمصلحة القلة – أنظمة تحكم لمصلحة الكثرة). وعلى وفق المعيار البنيوي صنف أنظمة الحكم، استناداً لدساتير الحكم ونوعية اهدافها ومقدار شرعيتها وعدم شرعيتها (الشرعية قد نتلمسها في أنظمة ملكية دستورية شرعية أو أنظمة ارستقراطية دستورية شرعية أو أنظمة ديمقراطية معتدلة شرعية، تقابلها أنظمة دستورية غير شرعية لتكون اما دستورية استبدادية أو دستورية أولغارشية أو دستورية ديمقراطية متطرفة/ غوغائية). ومن بين كل هذه التصنيفات لأنظمة الحكم انتهى ارسطو إلى تفضيل نظام مختلط يجمع صفات كل الأنظمة الدستورية الشرعية، ليصل إلى نظام الحكم المفضل لدولة واقعية كاملة، فرسم لها صورة جمهورية لا تشبه جمهورية افلاطون المثالية، لانه وضع لها أسسا عملية واقعية ذات خصائص تطبيقية، بخلاف الطبيعة الخيالية لإنموذج الدولة المثالية الافلاطونية، فكانت شروط دولته الواقعية الكاملة، متمثلة بشرط سياسي (نظام حكم مختلط ثنائي يجمع حسنات النظامين الاوليغارشي والديمقراطي)، وبشرط اجتماعي اقتصادي (حكم الطبقة الوسطى) وبشرط فلسفي فكري (الوسط الذهبي). 

لقد استنتج ارسطو لأشكال أنظمة الحكم والدساتير ومرتكزاتها وخصائصها وايجابياتها وسلبياتها، بأن دستور الدولة الواقعية، وهو المحدد لطبيعة نظامها السياسي وشكل السلطة فيها، ينبغي ان يجسد فكرة النظام المختلط التي اتخذت لديه صورة ثنائية، خلافاً لصورتها الثلاثية عند (هيبودام) وتوافقاً مع صورتها الثنائية عند افلاطون في كتابه (القوانين)، ولكن مع تغيير في بعض عناصرها عندما اضاف اليها عنصر القوى الاجتماعية التي يخدمها النظام.

اعتقد ارسطو أن النظام المختلط يجب أن يكون مركباً من الخصائص الايجابية للنظامين (الاوليغارشي والديمقراطي)، ليكون بذلك وسطاً ذهبياً بينهما، اسماه احياناً (النظام الدستوري) واسماه احيانا اخرى (النظام الجمهوري) وافترض أن تطبيق هذا النظام المختلط واقعياً يتطلب الجمع بين الأسس، التي يقوم عليها النظامان باستخدام الحلول الوسط، التي تجمع فرض شرط النصاب المالي البسيط على كل من يسهم في الحياة السياسية العامة فقيراً أو غنياً، وتجمع نظامي الانتخاب والاقتراع، أي جعل بعض الوظائف العامة بالانتخاب وبعضها الآخر بالقرعة أو الجمع بانتخاب عدد من الموظفين للمنصب في مجال الوظائف والمشاركة السياسية، بجعل الوظائف العامة بأجور معقولة وتغريم الأغنياء عند عدم مشاركتهم في الحياة السياسية، ومكافأة الفقراء عند مشاركتهم فيها.

واذ تختلف الدول عنذ ارسطو في بيئاتها وخصائصها، فليس من الضروري أن يتخذ النظام المختلط صورة واحدة، بل لا بد من تركيبه في كل حالة بما يتناسب ومتطلباتها، مع الاحتفاظ بالمبدأ الاساس فيه، وهو فكرة النظام المختلط بوصفها الفكرة والمبدأ الاقدر على خلق نظام سياسي واقعي متوازن في صفاته الايجابية، بعيداً عن سلبيات الأنظمة الادارية الطبيعية. وفي ذلك تكون لأرسطو متابعة معدلة لأفكار هيبودام وافلاطون حول النظام المختلط، وهي متابعة تجسد شرط ارسطو الوجودي السياسي للدولة الواقعية، وتؤكد شرطه الوجودي الفلسفي لهذه الدولة ممثلاً في الوسط الذهبي، لأن تصوره للنظام المختلط يعكس صورة نظام هو وسط ذهبي بين إفراط بعض الأنظمة وتفريط بعضها الآخر، فتكون مبادئ هذا النظام المختلط وسطاً بينهما، فلا هي افراط ولا تفريط، بل توسط واعتدال وتوازن. وإذا كان التوسط والاعتدال خير الامور والاحوال، فستكون الأنظمة الوسطى هي خير الأنظمة، وخير من يحكم الأنظمة الوسطى هي الطبقة الوسطى لأنها خير طبقات المجتمع، وهذا هو شرط ارسطو الوجودي الاجتماعي - الاقتصادي للدولة الواقعية التي جعلت هذه الطبقة القاعدة الاجتماعية لنظامها المختلط بطبيعته الوسطية وعماد بنيته وأداة استقراره ومصدر حيويته، وقوته المحركة. إذ كان ارسطو يعتقد أن الطبقة الوسطى خير طبقات المجتمع، وأكثرها أهلية لتولي مهام الحكم لسبب اساس هو: (إن افراد الطبقة الوسطى بعيدون عن التطرف ومعتدلون ومستعدون لسماع صوت العقل والنزول عند أحكامه ومجافون لطمع الاغنياء وتكبرهم ورياء الفقراء وتملقهم)، لذلك يكون الاغنياء أو الفقراء لغيرهم من طبقات المجتمع حكم سادة لعبيد، بينما يكون حكم الطبقة الوسطى حكم الحرية والعدالة، وتبادل المنفعة ومراعاة التفاوت بين الناس، وهذا ما يحتاجه الاجتماع الإنساني لضمان أمنه واستقراره 

وتقدمه.