عاشوراء في الإعلام.. محاذير التناول والتداول
د.عدنان الجياشي
لا ريب أن الإعلام العراقي (بمختلف اتجاهاته) يعطي لذكرى «عاشوراء»، حيث استشهاد الإمام الحسين (ع) حيزاً ولو بصورة متفاوتة، فتراه منذ 1- محرم يفرد مساحات (وقتية أو ورقية) لهذه الذكرى، يتناول مآتم العزاء، والمسيرة إلى كربلاء، كما يتعاطى مع امتدادات هذه الوقائع التاريخية وأثرها في الأتباع ماضياً وحاضراً، ويبلغ التناول الإعلامي ذروته في الأيام (7-10/محرم) ويكاد يشكل كل أو أغلب المحتوى المقدم، غير أن الحاجة تتطلب وقوفا وتحليلا ورصدا لما يقدمه هذا الإعلام من وقائع بغية تفكيكها، والإسهام في تشخيص بعض الهنّات والأخطاء، حتى لا يتحول الإيجابي إلى سلبي، وتصبح تلك الوقائع مجرد تعبئة للوقت دون فوائد مترتبة عليها..
التركيز على «البكائيات».. هل هو المطلوب؟
لا جدال أن رمزية عاشوراء وما جرى في خضمها من وقائع أمر فاجع، فهنالك «أهل بيت» وقادة (بالتكليف والتوصيف الديني) تعرضوا لمقتلة بعدما تم استدراجهم إلى العراق للثورة على الدولة الأموية المستبدة، واذا كان هذا معلوماً وقد تناقتله كتب التاريخ كلها، وأجمعت عليه المذاهب الاسلامية مع تحفظ بعضها من باب (طائفتان من المؤمنين أقتتلوا.. سورة الحجرات اية 9).. فإن استثمار الإعلام بـ «تهييج المشاعر» والبكائيات دون تتبع لخيوط الواقعة، وتحليلها بشكل عملي، عبر وضع منهاج «موحد» لتلك الوسائل يعدّ غير كاف.
تجتهد وسائل الاعلام في برامجها وفواصلها ومحتواها على تكريس جلّ الوقت لطرح ما مفاده: المظلومية إزاء الطغيان، من دون أن تخبر المتلقي عن خطة قائد الجيش الثائر (الإمام الحسين «ع») للإصلاح في ما لو نجحت الثورة، وعن مرتكزات الحكم العلوي، والستراتيجية الموضوعة للخلاص من الحكومة الفاسدة، فإذا كان الحسين (ع) نفسه قد قال : (إنما خرجت لطلب الإصلاح في أمة جدي) فلماذا يتجاهل الإعلام هذه المفردة أو يتناولها بشكل محدود؟.
تفتقد أغلب وسائل الإعلام إلى تحليل شخصية القائد في معركة العاشر من محرم، وتحوم أغلب محتوياته حول أحداث مكررة، من دون البحث عن أنساق جديدة يمكن الانطلاق منها لجعل هذه الواقعة بالفعل صالحة لكل زمان ومكان، من دون أن تُقحم فيها قضايا «لاهوتية» و أبعاد «ما ورائية»، تبعد المتلقي عن الهدف الأسمى وراء الثورة باعتبارها نقطة انطلاق لإصلاح متجذر، أو هي ثورة على الفساد والدكتاتورية والقمع وغياب العدالة.
هل الإمام الحسين (ع) لفئة محددة؟
اذا كان الانتماء أمراً وجدانياً لكل انسان، يجسد التصاقا بالجذور والمنابت، وحفاظا على الهوية، فإن اتساع هذا الانتماء ليشمل قضايا «دينية» و»عقائدية» دون مدّها أو تبصير الآخر بها يعد أمرا خاطئاً، ومن شأنه الإسهام في تقوقع «المنتمين» أولاً، وتراجع مشروعهم لدى العالم أو التقليل من زخمه واندفاعه.
إن نظرة متفصحة لما ينشر في الإعلام حول معركة العاشر من محرم التاريخية، تبعث برسائل تفيد أن القضية محصورة بـ «الشيعة» دون سواهم، بل تحاول منابر ومتخصصون إبراز هذا وإلصاقه بفئة محددة، متناسية أن الإمام الحسين (ع) مشروع إسلامي، بل عالمي يمتد إلى جهات العالم الأربع، والحال أن استثمار أسم قائد الثورة (دعنا نسميه هكذا) ونسبه يُسهّل على الجميع القيام بالمهمة إسلامياً، من دون أن يلقى ذلك اعتراضاً أو احتجاجاً ذواتا أثر.
لا يمكن لأي محتوى أن يعزل الإمام الحسين (ع) حتى لو كان في ذلك تعزيزا للانتماء وتقوية للصلة المذهبية بالقضية مثلما هو قائم على مدى (1400) عام، والأولى أن يعطى حيزاً لمنجز القائد قبل ثورته، ولما قدمه للإسلام من خدمات جليلة، فمن شأن هذا طرح تساؤلات كبرى لدى الآخر تتصل بالسبب الكامن وراء المقتلة، و بالتالي نزع مبررات المؤرخين «الواهية» التي عدّت كربلاء جزءا من فتن شتى سادت أرجاء الدولة الاسلامية في تلك الحقبة الفتية من
حياتها.
لا بد للإعلام أن يأخذ بأسباب التقريب بدل التباعد، ورفع شعار «الحسين للجميع» قولا وفعلاً، عبر نقل الصورة الواقعية للإمام كوريث لبيت النبوة، ومُكلّف بالإمامة في تسلسل وضعه النبي (ص)، وليس مجرد سليل أو أبن لهذا البيت المطهر، وضعته ظروف المرحلة بمواجهة النظام الحاكم، وربما حتى طموحات «الكرسي» مثلما تروّج لذلك بعض المراجع التاريخية المزيفة.
أبعد من الحوار.. أقرب إلى “التوثيق”:
ثمة “نزوع” غير عادي إلى اعتماد الحوار في المحتوى المخصص لذكرى عاشوراء، وإذا كان الحوار “حالة صحية” تنافي الجدال والصدام، فإن هنالك قولاً مأثوراً في الاعلام يتجلى في التركيز على الحوار كـ “فن سهل” غير مكلف، لا يتطلب من القائمين عليه سوى توظيف “محاوِر” و “مُحاوَر”، وبضع أسئلة مأثورة تتم الإجابة عليها لملء الفراغ الزماني أو المكاني.
إن الإكثار من هذا النمط لا يجعل التركيز على أبعاد “عاشوراء” الدينية والفكرية والعقائدية والفلسفية أمرا ممكناً، بالنظر إلى ان تناول قضية تاريخية “مُتخيلة” يتطلب توظيف التوثيق والمصادر والمؤثرات، وتقريب الصورة للمتلقي كي يتفاعل مع الحدث المحكي، ويفهم دلالاته ورسائله العابرة للحدود الزمكانية.
ولست أعرف لماذا يغيب أو يتراجع “الوثائقي” في التعاطي مع حدث ضخم من هذا القبيل؟ إن “الديكودراما” والبرامج البعيدة عن السردية مثل برامج الرحلات والاستكشافات هي الأقدر على ترسيخ صورة عاشوراء في الأذهان، وجعل المتلقي المولود بعد قرون طويلة يتعايش معها وكأنها قد وقعت للتو، ومن الممكن لكمٍ هائل من المصادر التاريخية كالكتب والخرائط والشهادات والرسوم أن تقلص الفجوة بين الجمهور والحدث، بدلاً من الارتكان إلى “متحدثين” يدور أغلبهم حول الموضوع، أو يعيدوا اجترار مفردات حفظوها، وقناعات ترسخت لديهم، من دون أن يستطيعوا نقلها إلى الجمهور وتغذية العقول بها، ولسنا هنا في وارد التغافل عن باحثين مبدعين، تمكنوا من فك رموز الواقعة بشكل مغاير، وأوصلوا رسائلها بطريقة مميزة.
ماذا يمكن أن نفعل؟
ما الذي يتعين على الإعلام القيام به حتى يؤدي مهمة عاشوراء على أتم وجه ويخرج من القالب النمطي الذي يعمل به؟ يتساءل البعض: اذا كانت الخارطة الإعلامية “غير موحدة” بالنظر لتعدد الولاءات والاتجاهات، فكيف يمكن تقديم توصيات قابلة للتعميم؟ وحتى نجيب على هذا التساؤل ينبغي الإشارة إلى عدة نقاط من شأنها مساعدة وسائل الاعلام في هذا الشق:
أولا: التخطيط: توحي البرامج المكررة والأنماط المعادة في الإعلام كل عام بضعف التخطيط لتغطية واقعة عاشوراء، وإذا كانت كل خطة ينبغي أن تتبع بتقييم لاحق لتلافي أخطاء التنفيذ المقبلة، فإن تكرار الأنماط يدل على عدم وجود تقييم ومتابعة، وإن التغطيات والمحتويات تنبع من قرارات ارتجالية وسريعة، للإيحاء بالاهتمام، وعلى هذا يكرّس الإعلام شهرين من العام من دون أن يسأل بعدها عن النتائج المتحققة، والمعادلات التي تم تغييرها أو الحقائق الجديدة التي تم ترسيخها في الأذهان.
ثانياً: التجديد: لا يقصد بالتجديد الخروج عن المألوف أو “السياق”، بل هو الابتكار في طرح الأفكار ومعالجة الوقائع، فلو كرّس الاعلام أياما للبعد الأخلاقي لواقعة كربلاء، ثم أعطى أياما للبعد المعرفي، وأخرى للبعد الديني، لكان أجدى، فالحقيقة أن تيارا واسعاً يركز على البعد العاطفي، مع تجاهل الأبعاد الأخرى آنفة الذكر أو تقليصها إلى الحد الأدنى.
ثالثاً: توحيد الرسائل والمحتوى: لا يمكن تجاهل ما يسببه تعدد المحتويات من “تشتيت” للأذهان، فإذا كان لكل مؤسسة اعلامية محتوى خاصاً، زيادة على ما تقدمه مواقع التواصل الاجتماعي من بث للوقائع، فكيف يمكن للمتلقي فرز الرسائل من هذا الكم الهائل والاستفادة منها؟ إن التوحيد المذكور يتطلب سلسلة اجتماعات ومداولات وتواصل بين وسائل الإعلام للخروج برؤية موحدة حيال حدث ليس عليه اختلاف أو جدل، ولا نعني هنا ان تتحول جميع المحطات إلى محطة واحدة، بل بالإمكان الإجماع على ساعات موحدة تبث فيها برامج ذات طابع فكري وتحليلي يقرّب الصورة، وتترك لها مساحة لبث برامجها وفقا لما خططت
له.
رابعاً: تعزيز الرسائل “الموجهة” للعالم الخارجي: إن ايصال القضية الحسينية للعالم يتطلب تعزيزا للرسائل الموجهة للغير، إن من ناحية الكم أو النوع، فاستخدام اللغات الحية بالتواصل، والاعتماد على ذوي الخبرة في تقديم برامج بلغات أخرى مع استقطاب للرموز المعتدلة من داخل العالم الإسلامي وخارجه، مع توظيف مواقع التواصل في اقتطاع وبث تلك اللقاءات، من شأنه نقل الصورة الحية للمشهد، وتكريس حقيقة ثورة عاشوراء بعيدا عن
الاستقطاب.