هل هناك تاريخ للكذب؟

ثقافة 2023/08/16
...

 وارد بدر السالم

 المقولة القديمة الشهيرة لجوزيف غوبلز- ذراع هتلر الإعلاميَّة: اكذب ثم اكذب ثم اكذب حتى يصدقك الناس، كانت مقولة «صادقة» في عصرها العسكري والحربي. فالكذب أحد الأسلحة التي تستعملها الجيوش لتمويه الأعداء، ويستعملها السياسيون لتضليل الرأي العام المغفل دائماً. غير أن تقدم الحياة في التكنولوجيا والإلكترونيات المستحدثة غيّر المعادلة الإعلاميَّة الى حد كبير. وبات الكذب من أيِّ نوع مفضوحاً، إلا ما تقتضيه أسرار الدولة وأمنها الوطني، ولكن هذا لن يدوم طويلا في عصر الاتصالات النوعيَّة.

وإذا سلّمنا بأنَّ في التاريخ كذباً كثيراً ومخادعات أكثر. وأن بين «الصدق» و «الكذب» مسافة طويلة من الوقائع الاجتماعية والسياسية؛ حتى جعل المهزومين منتصرين، وقزّم العمالقة وعملق الأقزام. فالسؤال الذي نسأله: هل الكذب هو مفهوم، أم هو سيرة اجتماعية لها جذورها القديمة؟، وهل له سيرة تاريخيّة يمكن للباحث والقارئ أن يتتبعها؟، وما هي علاقة مفردة «الكذب» بمفردات أخرى يتم تداولها في المجتمعات، لو قاربناها في الصورة السيميائيّة-

اللغويّة؟.

دراسة الكذب في تاريخيته المتأصّلة، تشترك فيها علوم انسانيّة كثيرة، يتقدمها علم النفس في استخراجاته النفسيّة والعوامل البيئيّة والعقليّة المحيطة بمجتمع الكذب وأفراده، مثلما يتدارسها ويبحث فيها علم الاجتماع المساند للعلوم النفسيّة، وتفلسفها الفلسفة الى عوامل متداخلة وتحليلات عقليّة وبيئيّة وجغرافيّة وسياسيّة وتاريخيّة. فمثل هذه الصفة بسلوكها المضطرب، إن كانت في تاريخيتها عفوية وتحمل معها مفردات موازية للكذب: الخطأ. المبالغة. التخيل. التعبير غير المتكامل.

جاك دريدا في محاضرته - كتابه «تاريخ الكذب» يقارِب مفهوم الكذب في تاريخيته الاجتماعية، عبر المفردة أولاً، ومن ثم يتوسع في هذه المحاضرة، ليقول بأن تاريخ الكذب قديم، ومفهوم المفردة مستقل عن تاريخيته. فهناك مفردات تقترب منه لكنها تتقاطع معه من حيث المعنى والهدف، فـ الخطأ ليس كذباً (ولا يمكن اختزال تاريخ الكذب في تاريخ خطأ ما) الخطأ يمكن تصحيحه، لأنّه لا يهدف الى تضليل وخداع الآخرين. ومن ثمَّ فإنَّ الكذب بتاريخه (السياسي) الطويل موضع مناقشات فلسفيّة واجتماعيّة وأخلاقيّة. وفي التاريخ الفلسفي الإنساني ثمة جدل يُثار دائماً بين الحقيقة والكذب، أو الصدق والكذب على نحو أدق، لما تحمله المفردتان من تناقضات في المعنى

والتوجيه. 

فالخطأ، والغلط، والنية، وحسن النية، والتخيّلات، هي مفردات مطاطة تعطي المعاني المتعددة والتأويل المتعدد، حتى «الاعتقاد» و»الاقتناع» (التي أشار لهما القديس أغسطين) يفترقان عن الكذب ومشتقاته التضليليَّة، لكن رأي دريدا يقوم على أساس أن الكاذب يعلم ويعرف ما يقوم به من فعل تدليسي مُضلل (من البديهي أن الكاذب يعرف الحقيقة) وحتى مع استشهاداته لأقوال وآراء «حنّة أردنت» في الكذب السياسي، فإنه يتطابق مع رؤيتها في هذا، فـ (السياسة تعتبر مجالا خصبا للكذب)

وتقديمنا لغوبلز يشير على أوضح كذبة معاصرة تعرفها الأغلبية، في «صدقيتها» حين مزجت بين السياسة والحرب لأغراض التمويه التي اعتمدها هتلر وأبواقه الاعلاميَّة. ليكون (الكذب المطلق) في سياسته أحد الأسلحة الفاعلة في كسب الحرب. 

اما الكذب الضخم، وهو من تسميات هتلر، ففي كتابه «كفاحي» يقدم نظرية للكذب في هذا الشأن، فالسياسات العموديّة، ذات الرأي الواحد، لا بدَّ أن تميل الى إخفاء أدوارها العالميّة مرة، وأخرى في إطلاق الكذب الضخم، لجذب الجماهير التي (تصدّق) الأكاذيب وتسير وراءها في ولاءٍ مطلق، بغض النظر عن لون وحجم الأكاذيب السياسيّة. لكنْ هناك كذب تبرّره السياسات الدوليّة في (اخفاء الحقيقة) وهو ما يراه دريدا بأنّه (يرتبط بالشر) كالكذبة الفظيعة التي سوّقها الرئيس الأسبق جورج بوش الأب باتهام العراق بأنّه يمتلك أسلحة الدمار الشامل، والتي قامت الحرب بسببها، وأدت الى احتلال العراق وتفكيك الدولة بشكل كلي. وهذا الكذب - الشرير فكك منظومة دولة ذات كيان اقتصادي واجتماعي وتاريخي منظّم. وهذا يقع في الباب التاريخي لتطور الأكاذيب السياسية. أي أنه لم يكن كذبة فردية، انما الفرد فيها قام بإطلاقها تعبيراً عن منظومة سياسية متوحشة، وهذه متتالية تاريخية، لم يبدأها غوبلز، بل ربما كانت أقدم منه في الحيز السياسي والحربي العالمي. ومن ثمَّ لو أحصينا الكذب التاريخي الذي عاصرته أجيال من القرن الثامن عشر وحتى القرن الواحد والعشرين، ستكون هناك ملفات ضخمة في هذا النسق المفتوح في أروقة الإعلام والمخابرات العالميَّة. وتاريخ اعترافات الدول تشير الى هذه الصفة. ولا يمكن إغفال دور الإعلام العالمي المحترف في تسويق الأكاذيب على الرأي

العام.

في المجال الفلسفي الأقدم من تاريخ الكذب، فإن (نيتشه يميل الى اتهام الأفلاطونية والمسيحية والكانطية والوضعية بالكذب عندما تحاول إقناعنا بوجود عالَم حق..) وهذه الاتهامات الفلسفية ليس بالضرورة أن تكون صادقة، فالخيال السردي للفلسفي يقوم على وقائع تاريخية واجتماعية، ليس بالضرورة أن تكون قارّة، فمستويات التغيير فيها قائمة لتطور الأنساق الحضارية للبلدان منذ القديم وحتى اليوم. ومن ثمَّ فإنَّ الفلسفة القائمة على مبدأ الشك، يتغير مناخها السردي والاستنتاجي

بالضرورة.

في كتاب «كيف تكون حراً» لأنطوني آرثر لونغ هناك مختصر من محادثات ايبكتيتوس (55 - 135 ميلادية) ترى أن أول الفلسفة تمثُّل مبادئها، مثل «لا تكذب». وثانيها هو البراهين مثل «لماذا علينا ان لا نكذب». وثالثها تفسير البراهين. مثل : ما الذي يجعل هذا البرهان صواباً. ما هو البرهان بحد ذاته، وما الصواب وما التناقض، وما الحقيقة وما الباطل» وبينما ننشغل بالبرهان والبحث عن حقيقة الصواب من الخطأ، الأجدر أن نلفت انتباهاتنا الى أول الفلسفة وسؤاله:

لا تكذب.  وهكذا تحاول الفلسفة من دون زيف أن تشكك بالوقائع والبراهين قبل حلول الدليل، فهي باحثة بعمق عن الأصول التاريخيّة والنفسيّة والاجتماعيّة لأيّة ظاهرة، ودراسة ظرفها العميق، قبل تحليله. لذلك عندما نقرأ أن هناك من يعيد كتابة التاريخ، من دون المرور بدوائر الفلسفة وزواياها المعقدة، سيُعدّ هذا ضرباً من الحماقة التي تحمل بين طيّاتها أكثر من زيف. بما يعني تدوير الكذب بأكاذيب 

جديدة.